النورسي وحوار عن الزلازل | العدد الخامس والعشرون
النورسي وحوار عن الزلازل
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك





هذا حوار على شكل أسئلة وأجوبة كتبها الداعية بديع الزمان النورسي قبل عقود من الزمن إثر زلزال حدث في تركيا..

(
إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا . وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا . وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا . يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا . بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا . يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ . فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ
) هذه السورة الجليلة تبين بيانا قاطعا، أن الأرض في حركاتها وزلزالها وحتى في اهتزازاتها أحيانا، إنما هي تحت أمر الله ووحيه. لقد وردت إلى القلب أجوبة ـ بمعاونة تنبيه معنوي ـ عن بضعة أسئلة تدور حول الزلزال الذي حدث حاليا، ورغم أني عزمت على كتابة تلك الأجوبة كتابة مفصلة عدة مرات، فلم يؤذن لي، لذا ستكتب مختصرة ومجملة.

السؤال الأول: لقد أذاقت هذه الزلزلة العظيمة الناس مصيبة معنوية أدهى من مصيبتها المادية الفجيعة، تلك هي الخوف والهلع واليأس والقنوط التي استولت على النفوس، حيث إنها استمرت ودامت حتى سلبت راحة أغلب الناس ليلا. وعم القلق والاضطراب أغلب مناطق البلاد.. ترى ما منشأ هذا العذاب الأليم وما سببه؟ بمعاونة تنبيه معنوي كذلك كان الجواب هو الآتي: أن مما يقترف في أرجاء هذه البلاد ـ التي كانت مركزا طيبا للإسلام ـ من مجون وعربدة جهارا نهارا، وفي شهر مبارك جليل كشهر رمضان، وأثناء إقامة صلوات التراويح، وإسماع الناس أغان مثيرة بأصوات نساء، وأحيانا من الراديو وغيرها.. قد ولد إذاقة عذاب الخوف والهلع هذا.

السؤال الثاني: لماذا لا ينزل هذا العذاب الرباني والتأديب الإلهي ببلاد الكفر والإلحاد وينزل بهؤلاء المساكين المسلمين الضعفاء؟

الجواب: مثلما تحال الجرائم الكبيرة إلى محاكم جزاء كبرى، وتعهد إليها عقوبتها بالتأخير، بينما تحسم الجنايات الصغيرة والجنح في مراكز الأقضية والنواحي، كذلك فإن القسم الأعظم من عقوبات أهل الكفر وجرائم كفرهم وإلحادهم يؤجل إلى المحكمة الكبرى في الحشر الأعظم، بينما يعاقب أهل الإيمان على قسم من خطاياهم في هذه الدنيا، وذلك بمقتضى حكمة ربانية مهمة.

السؤال الثالث: لماذا تعم هذه المصيبة البلاد كلها، علما أنها مصيبة ناجمة من أخطاء يرتكبها بعض الناس؟

الجواب: إن أغلب الناس يكونون مشتركين مع أولئك القلة الظلمة، إما مشاركة فعلية، أو التحاقا بصفوفهم أو التزما بأوامرهم، أي يكونون معهم معنى، مما يكسب المصيبة صفة العمومية، إذ تعم المصيبة بمعاصي الأكثرية.

السؤال الرابع: ما دامت هذه الزلزلة قد نشأت من اقتراف الخطايا والمفاسد، ووقعت كفارة للذنوب، فلماذا تصيب الأبرياء إذن، ويحترقون بلظاها وهم لم يقربوا الخطايا والذنوب، وكيف تسمح العدالة الربانية بهذا؟ وكذلك بمعاونة تنبيه معنوي كان الجواب هو الآتي:

إن هذه المسألة متعلقة بسر القدر الإلهي، لذا نحيلها إلى ( رسالة القدر ) ونكتفي بالآتي: قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) ( الأنفال: 25 ).

وسر هذه الآية ما يأتي:

إن هذه الدنيا دار امتحان واختبار، ودار مجاهدة وتكليف، والاختبار والتكليف يقتضيان أن تظل الحقائق مستورة ومخفية، كي تحصل المنافسة والمسابقة، وليسمو الصديقون بالمجاهدة إلى أعلى عليين مع أبي بكر الصديق، وليتردى الكذابون إلى أسفل سافلين مع مسيلمة الكذاب. فلو سلم الأبرياء من المصيبة ولم يمسهم سوء ولا أذى، لأصبح الإيمان بديهيا، أي لاستسلم الكفار والمؤمنون معا على حد سواء، ولانتفى التكليف وانسد بابه، ولم تبق حاجة إلى الرقي والسمو في مراتب الإيمان. فما دامت المصيبة تصيب كلا من الظالمين والمظلومين معا، وفق الحكمة الإلهية، فما نصيب أولئك المظلومين من العدالة الإلهية ورحمتها الواسعة؟.

الجواب: إن هناك تجليا للرحمة في ثنايا ذلك الغضب والبلاء، لأن أموال أولئك الأبرياء الفانية ستخلد لهم في الآخرة، وتدخر صدقة لهم، أما حياتهم الفانية فتتحول إلى حياة باقية بما تكسب نوعا من الشهادة، أي إن تلك المصيبة والبلاء بالنسبة لأولئك الأبرياء نوع من رحمة إلهية ضمن عذاب أليم مؤقت، حيث تمنح لهم بمشقة وعذاب مؤقتين، وقليلين نسبيا، غنيمة دائمة وعظيمة.

السؤال الخامس: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو العادل الرحيم، والقدير الحكيم، لا يجازي الذنوب الخاصة بعقوبات خاصة، وإنما يسلط عنصرا جسيما كالأرض، للتأديب والعقاب. فهل هذا يوافق شمول قدرته وجمال رحمته سبحانه؟.

الجواب: لقد أعطى القدير الجليل كل عنصر من العناصر وظائف كثيرة، وينشيء على كل من تلك الوظائف نتائج كثيرة. فلو ظهرت نتيجة واحدة قبيحة ـ أي شر ومصيبة وبلاء ـ من عنصر من العناصر في وظيفة من وظائفه الكثيرة، فإن سائر النتائج المترتبة على ذلك العنصر، تجعل هذه النتيجة الوخيمة في حكم الحسن والجميل، لأنها جميلة وحسنة إذ لو منع ذلك العنصر الغاضب على الإنسان من تلك الوظيفة للحيلولة دون مجئ تلك النتيجة الوحيدة البشعة للوجود لتركت إذن خيرات كثيرة بعدد النتائج الخيرة المترتبة على سائر وظائف ذلك العنصر. أي تحصل شرور كثيرة بعدد تلك النتائج الخيرة، حيث إن عدم القيام بخير ضروري، إنما هو شر كما هو معلوم. كل ذلك للحيلولة دون مجئ شر واحد! وما هذا إلا منافاة للحكمة. وهو قبح واضح، ومجافاة للحقيقة، وقصور مشين. بينما الحكمة والقدرة والحقيقة منزهة عن كل نقص وقصور. ولما كان قسم من المفاسد هو عصيانا شاملا وتعديا فاضحا على حقوق كثير من المخلوقات وإهانة لها واستخفاف بها حتى يستدعي غضب العناصر ولا سيما الأرض، فيثير غيظها، فلا شك أن الإيعاز إلى عنصر عظيم بأن يؤدب أولئك العصاة، إظهارا لبشاعة عصيانهم وجسامة جنايتهم، إنما هو عين الحكمة والعدالة، وعين الرحمة للمظلومين في الوقت نفسه.

السؤال السادس: يشيع الغافلون في الأوساط، أن الزلزلة ما هي إلا نتيجة انقلابات المعادن واضطراباتها في جوف الأرض، فينظرون إليها نظر حادثة نجمت من غير قصد، ونتيجة مصادفة وأمور طبيعية، ولا يرون الأسباب المعنوية لهذه الحادثة ولا نتائجها، كي يفيقوا من غفلتهم وينتبهوا من رقدتهم. فهل من حقيقة لما يستندون إليه؟

الجواب: لا حقيقة له غير الضلال، لأننا نشاهد أن كل نوع من آلاف أنواع الأحياء التي تزيد على خمسين مليونا على الكرة الأرضية، يلبس أقمصته المزركشة المنسقة ويبدلها كل سنة، بل لا يبقى جناح واحد وهو عضو واحد من مئات أعضاء الذباب الذي لا يعد ولا يحصى، لا يبقى هذا العضو هملا ولا سدى بل ينال نور القصد والإرادة والحكمة. مما يدل على أن الأفعال والأحوال الجليلة للكرة الأرضية الضخمة ـ التي هي مهد ما لا يجد من ذوي المشاعر وحضارتهم ومرجعهم ومأواهم ـ لا تبقى خارج الإرادة والاختبار والقصد الإلهي، بل لا يبقى أي شيء خارجها، جزئيا كان أم كليا. ولكن القدير المطلق قد جعل الأسباب الظاهرة ستائر أمام تصرفاته بمقتضى حكمته المطلقة، إذ حالما تتوجه إرادته إلى أحداث الزلزلة، يأمر ـ أحيانا ـ معدنا من المعادن بالاضطراب والحركة، فيوقده ويشعله. هب أن الزلزال نشأ فرضا من حدوث انقلابات المعادن واضطراباتها، فلا يحدث أيضا إلا بأمر إلهي ووفق حكمته لا غير.

إذ كيف أنه من البلاهة والجنون، وضياع جسيم لحق المقتول، ألا يؤخذ القاتل بنظر الاعتبار ويحصر النظر في البارود المشتعل في طلقة بندقيته، كذلك فإن الحماقة الأشنع منها الانسياق إلى الطبيعة، تلك المسخرة مثل السفينة والطائرة للقدير الجليل، فيأمرها سبحانه بالانفلاق إيقاظا للغافلين وردعا للطغاة.

إن أهل الضلال والإلحاد يبدون تمردا غريبا، وحماقة عجيبة إلى درجة تجعل الإنسان نادما على إنسانيته، وذلك في سبيل الحفاظ على مسلكهم المعوق لصحوة الإيمان. فمثلا:

إن العصيان الظالم المظلم، الذي اقترفه البشر في الآونة الأخيرة، والذي عم العالم وشمله، حتى أغضب العناصر الكلية. بل تجلت ربوبية خالق الأرض والسموات بصفة رب العالمين وحاكم الأكوان ـ لا بصفة ربوبية جزئية خاصة ـ في العالم أجمع، وفي دائرة كلية واسعة، فصفع رب العالم البشرية ببلايا وآفات عامة مرعبة كالحرب العالمية والزلازل والسيول العارمة والرياح الهوج والصواعق المحرقة والطوفانات المدمرة. كل ذلك إيقاظا لهذا الإنسان السادر في غفلته، وسوقا له ليتخلى عن غروره وطغيانه الرهيب. ولتعريفه بربه الجليل الذي يعرض عنه. فأظهر سبحانه حكمته وقدرته وعدالته وقيوميته وإرادته وحاكميته إظهارا جليا. ولكن على الرغم من هذا فإن شياطين حمقى ممن هم في صور أناسي، يتمردون في وجه تلك الإشارات الربانية الكلية والتربية الإلهية العامة للبشرية، تمردا ببلاهة مشينة، إذ يقولون: إنها عوامل طبيعية، إنها انفجار مواد وأخلاط معادن، إنها مصادفات ليس إلا، فقد تصادمت حرارة الشمس والكهرباء فأحدثت توقفا في المكائن في أمريكا لمدة خمس ساعات واحمر الجو في ( قسطموني ) حتى كأنه يلتهب! إلى آخر هذه الهذيانات التي لا معنى لها. فالجهل المريع الناشئ من الضلال، والتمرد المقيت المتولد من الزندقة، يحولان دون إدراكهم ماهية الأسباب، التي هي حجب وستائر ( أمام القدرة الإلهية ) ليس إلا.

إذ ترى أحدهم ـ من جهله ـ يبرز أسبابا ظاهرية، ويقول: هذه الشجرة الضخمة للصنوبر ـ مثلا ـ قد أنشأتها هذه البذرة. منكرا معجزة صانعها الجليل. علما أنه لو احيلت إلى الأسباب لما كفت مائة من المصانع لتكوين تلك الشجرة.

فإبراز أسباب ظاهرية ـ مثل هذه ـ إنما هو تهوين من شأن عظمة فعل الربوبية الجليلة المفعمة بالحكمة والاختيار. وترى آخر يطلق اسما علميا على حقيقة مهمة يقصر العقل عن إدراك مداها وعمقها. فكأن تلك الحقيقة قد عرفت وعلمت بمجرد وضع اسم عليها. وغدت مألوفة معتادة، لا حكمة فيها ولا معنى!. فتأمل في هذه البلاهة والحماقة التي لا منتهى لهما! إذ الحقيقة التي لا تسع مائة صحيفة لبيان حكمتها وتعريفها، كأن وضع هذا العنوان عليها جعلها معروفة مألوفة! وقولهم: هذا الشيء من هذا. وهذه الحادثة من مادة الشمس التي اصطدمت بالكهرباء.. جعل ذلك الشيء معروفا وتلك الحادثة مفهومة!! بل يظهر أحدهم جهلا أشد من جهل أبي جهل، إذ يسند حادثة ربوبية مقصودة خاصة، يرجعها إلى أحد قوانين الفطرة، وكأن القانون هو الفاعل! فيقطع بهذا الإسناد نسبة تلك الحادثة إلى الإرادة الإلهية الكلية واختياره المطلق وحاكميته النافذة والتي تمثلها سننه الجارية في الوجود.. ثم تراه يحيل تلك الحادثة إلى المصادفة والطبيعة! فيكون كالأبله العنيد الذي يحيل الانتصار الذي يحرزه جندي أو فرقة، في الحرب، على نظام الجندية وقانون العسكرية، ويقطعه عن قائد الجيش، وسلطان الدولة، والأفعال الجارية المقصودة.

ولننظر إلى حماقتهم الفاضحة بهذا المثال:

إذا ما صنع صانع ماهر مائة أوقية من مختلف الأطعمة، ومائة ذراع من مختلف الأقمشة، من قطعة صغيرة من خشب لا يتجاوز حجمها قلامة أظافر. وقال أحدهم إن هذه الأعمال الخارقة قامت بها تلك القطعة الخشبية التافهة! ألا يرتكب حماقة عجيبة؟ فهذا شبيه بمن يبرز بذرة صلدة وينكر خوارق صنع الصانع الحكيم في خلق الشجرة،بل يحط من قيمة تلك الأمور المعجزة بإحالتها إلى مصادفة عشواء أو عوامل طبيعية!

السؤال السابع: كيف يفهم بأن هذه الحادثة الأرضية متوجهة بالذات إلى مسلمي هذه البلاد، أي إنها تستهدفهم؟ ولماذا تقع بكثرة في جهات ( أزمير ) و( ارزنجان ).

والجواب: أن هناك إمارات كثيرة على أن هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، إذ وقوعها في قارس الشتاء وفي ظلمة الليل، وفي شدة البرد، وخاصة في هذه البلاد التي لا تحترم شهر رمضان، واستمرارها الناشئ من عدم اتعاظ الناس منها، ولإيقاظ الغافلين من رقدتهم بخفة... وأمثالها من الإمارات تدل على أن هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، وأنها تتوجه إليهم وتزلزلهم بالذات لتدفعهم إلى إقامة الصلاة والدعاء والتضرع إليه سبحانه.

أما شدة هزتها في أرزنجان المنكوبة، فلها وجهان:

الأول: أنها عجلت بهم تكفيرا عن خطاياهم الطفيفة.

الثاني: يحتمل أنها ضربت صفعتها أولا في تلك الأماكن، حيث أسس أهل الزندقة مركزا قويا لنشاطاتهم منتهزين الفرصة من قلة عدد حماة الإسلام الأقوياء وحفظة الإيمان الأصلاء، أو لكونهم مغلوبين على أمرهم.

لا يعلم الغيب إلا الله.. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.