logo.png
الملك المظفر يوسف بن عمر
طباعة



د. أحمد هجوان
هو شمس الدين يوسف بن عمر (المنصور نور الدين) بن علي بن رسول الغساني التركماني المولود بمكة المكرمة؛ ثاني وأعظم ملوك الدولة الرسولية في اليمن وواسطة عقدها. مولده سنة 619هـ، حُكمه سنة 647هـ، وفاته 694هـ. كان كريمًا، شجاعًا، عفيفًا عن أموال الرعايا، عبقريٌّا، حَسن التدبير في السياسة والحرب والسلم.
اشتهر بالفصاحة والتبحر في مختلف العلوم، وخدمة العلم والعناية الفائقة به؛ قال الأستاذ عبدالله محمد الحبشي في كتابه (حكام اليمن المؤلفون والمجتهدون): (يذكر الخزرجي في ترجمته للسلطان المظفر حادثة تدلنا على اهتمامه وعنايته بالبحث والتدقيق فيقول: إنه طالع في تفسير الرازي فوجد في نسخته نقصًا في بعض المواضع فأرسل في طلب أربع نسخ أخرى من مصر، فوجدها كذلك ناقصة ولم يهدأ له بال حتى أرسل في طلب نسخة المؤلف من خراسان فوجد النقص كما كان في سائر النسخ، وهنا تيقن أن النقص من عند المؤلف وليس من الناسخ).

وكان من أكثر الملوك اهتمامًا بالتعليم، وبناء المساجد والمستشفيات، وله مآثر حسنة طيبة بعضها ما يزال مشاهدًا، وبعضها أتى عليه الزمن فذهبت ولم يذهب أجر العاملين، فمن مآثره الجامع التعزي الكبير الذي ما يزال معروفًا باسمه وقد تخرج فيه كثير من العلماء المشهورين، وللمظفر جامع آخر ويعرف كذلك باسمه في المهجم، وثالث في واسط لمحالب، ولهذه المساجد أوقاف كثيرة، وقد رتب في كل منها مؤذنًا أو مؤذنين، ومدرسًا أو مدرسين، ووقف على طلبة العلم والمنقطعين للتعلم والتعليم فيها ما يكفيهم، أما المدارس فله المدرسة التعزية (المظفرية) وجعل فيها مدرسًا ومعيدًا وعشرة طلاب، ومعلمًا للقرآن وعشرة أيتام، ولهم في المدرسة ما يكفيهم ويقوم بكفالتهم، وله مدرسة للحديث، ومدرسة لأصحاب القرآن، ودار ضيافة، وابتنى (خانقه) وتكتب أيضًا (خانقاه) وتسمى (المظفر خانقاه) أي مستشفى المظفر ـ لعلها بلغة التركمان ـ في مدينة حيس، وجعل للواردين من الأوقــاف ما يكفيهم مدة بقائهم هنالك، وبالجملة فمآثره كثيرة، وكان عالمًا، فقيهًا، قارئًا، محدثًا، لغويٌّا، منطقيٌّا، طبيبًا.


وله على الكتب التي كان يقرأها تعليقات كثيرة تدل على طول باعه وغزارة علمه. والعلم والإصلاح سنّة في الدولة الرسولية؛ فإن لوالده كثيرًا من الصدقات الجارية، وبناء المساجد والمدارس، وشق الطرق، وإصلاح مجاري المياه، وبناء المدن مثل مدينة المنصورية التي سميت باسمه وبنى في زبيد المدرسة الشرقية للشوافع، وله المدرسة الغربية خصصها للأحناف، وله مدرسة يقال لها الغرابية نسبة إلى مدرسها الغرابي في مدينة تعز، وله أيضًا المدرسة الوزيرية، وله في مكة المكرمة مدرسة عظيمة، ومدرسة في وادي سهام ومسجد النويرية بين زبيد وحيس في اليمن، وأصلح مدينة برك الغماد، وأنشأ حصونًا منيعة بين مكة والمدينة، ومصانع لتحلية المياه وتنقيتها، وكان أخوه طبيبًا كما تقدم.


قال مصطفى السقا ـ رحمه الله: وابتنى رجالهم ونساؤهم مدارس كثيرة للتعليم، وأحبوا العلم والعلماء، وقربوهم، وأعانوهم على نصح العامة وإرشادهم إلى أقوم السبيل، وثبتوا الأمن في نصابه، واشتهر كثير منهم بالفصاحة ونظم الشعر، وتعمق كثير منهم في فنون العلم، واشتهروا بتآليف ممتعة. وصاحب الترجمة كان أعلمهم وواسطة عقدهم، وقد ألّف الملك المظفر في مختلف الفنون؛ كالحديث، والصنع، والطب، والفلك، فكان من أشهرها.


أولاً: في الصناعة

(كتاب المخترع في فنون من الصنع)

ومن تلك الصنع: صناعة المنجنيق الذي رسمه بأربعة أمثلة، وصناعة تطييب النفط، وصناعة القلم، وأنواع وأجناس المداد، وتكوين الصباغات، وقلع الآثار، والصبوغات من الثياب، وعمل الصابون، والليف، والكتابة بالذهب والفضة وإلزاقهما، ووضع الأسرار في الكتب، وما يمحو الدفاتر والرقوق، وفي غراء المجلدين وتجليد الكتب وآلالتها ومعرفة الألوان.


قال خير الدين الزركلي في الأعلام ج8 ص243:  وهو أول من كسا الكعبة من داخلها وخـارجها سنة 656هـ بعد انقطاع ورودها من بغداد بسبب دخول المغول بغداد، وبقيت كسوته الداخلية إلى سنة 761هـ، ولا يزال على أحد الألواح الرخامية في داخل الكعبة إلى اليوم النص الآتي:

(أمر بتحديد رخام هذا البيت المعظم، العبد الفقير إلى رحمة ربه وأنعمه؛ يوسف بن علي بن رسول, اللهم أيده بعزيز نصرك، واغفر له ذنوبه، برحمتك يا كريم يا غفار بتاريخ سنة ثمانين وستمائة هجرية.


ثانيًا: في علوم الطب

(كتاب المعتمد في الأدوية المفردة):

كان للملك المظفر كبير الاهتمام بعلوم الطب وبناء المستشفيات، ومن مآثره في حيس اليمن خانقاه (مستشفى كبير) قال مصطفى السقا الأستاذ بجامعة فؤاد الأول ـ القاهرة حاليٌّا ـ في مقدمته للمعتمد: قال الخزرجي 1: 278: لما افتتح الملك المظفر مدينة ظفار ذكر في كتابه إلى الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر أنه يحتاج إلى طبيب لمدينة ظفار لأنها وبيئة، وقال: ولا يظن المقام العالي أن نريد الطبيب لأنفسنا، فإنّا نعرف ـ بحمد الله ـ من الطب ما لا يعرفه غيرنا، وقد اشتغلنا فيه من أيام الشبيبة اشتغالاً كثيرًا، وولدنا عمر الأشرف من العلماء بالطب، وله كتاب الجامع ليس لأحد مثله.


منهج الملك المظفر التجريبي في كتابه المعتمد في الأدوية المفردة:

جمع الباحث الملك المظفر نحو ستمائة صفحة دوّن فيها ما اعتمده من علوم الطب القديم والمعاصر له، لذلك سماه (المعتمد) واختصرها، وحققها، وقدمها للأطباء في ثوب قشيب، وقد أحسن الإفادة منها بعد عناء كبير في اختياره وانتخابه لأصح التجارب والأقوال مما تمس إليه حاجة الأطباء، مستوعبًا لأكثر ما فيها وأحسنه وأنفعه وأجمعه لمن يزاول مهنة الطب، ثم رتب مادة الطب كترتيب المعاجم اللغوية الحديثة (أ ب ت)، ليكون أقرب متناولاً وأيسر على الباحث والطبيب، ومن منهجه في هذا الكتاب أنه لا ينقل إلا عن من عرف بالدقة في البحث من حذاق الأطباء، والأخذ عمن يعتمد على نفسه بإعادة التجارب والسر، والتحقق من صحة المعلومات، وتصحيح واستدراك أخطاء الغير، وعدم التسليم بأقوال السابقين من الأطباء والمترجمين والصيادلة حتى يرى النباتات التي تصنع منها الأدوية في مواطنها، ويتحقق من عباراتها وصفاتها وضروبها وأنواعها ومقادير ما يأخذ منها وبدائلها إذا أعدمت، ثم يقوم الملك المظفر نفسه بإعادة التجارب والتحقق.

قال الأستاذ مصطفى السقا: ولذا كان من أول خصائص المعتمد الجمع بين الدراسات النظرية والتطبيقية العملية، فكان من أحسن الدساتير الجامعة بين العلم والعمل في العلاج والتدبير، وأما الذين أخذ عنهم صاحب المعتمد فهم ـ كما قال: واستخرجته من كتاب الحكيم الفاضل عبدالله بن البيطار المغربي المعروف بالعشاب (الجامع لقوي الأدوية والأغذية) وعلامة اسمه للاختصار (ع)، ومن كتاب ابن جزله المعروف بـ(المنهاج) وعلامة اسمه (ج)، ومن كتاب الحكيم أبي الفضل حسن إبراهيم التفليسي وعلامة اسمه (ف)، ومن أبدال الزهراوي وعلامة اسمه (ز)، ومن أبدال أحمد بن خالد المعروف بابن الجزار واسمه مثبت (ابن الجزار) من غير علامة.


كتاب كشف علوم الطب للعيان:

عن هذا الكتاب قال الحبشي: قال الزركلي: إنه رآه بإحدى مكتبات الطائف في مجلدين.


ثانيًا: في علم الفلك

(كتاب تيسير الطالب في تيسير الكواكب):

وله أيضًا (المطالب في تيسير النيرين وحركة الكواكب).

رابعًا: وله كتاب عنوانه (أربعون حديثًا)
قال الزركلي: وله معرفة بعلم الحديث، كذلك قال البيحاني، وله (العقد النفيس في مفاكهة الجليس).

ومع هذه الحياة الحافلة بالعلم فقد كان من دهاة السياسة وعباقرة العسكرية؛ فقد قامت بعد مقتل أبيه وتوليه حروب كثيرة خرج منها مظفرًا، وكانوا يشبهونه بمعاوية في حزمه وتدبيره، قال خصمه الزيدي الإمام المطهر بن يحيى حين بلغه خبر وفاته: مات التبع الأكبر، مات معاوية الزمان، من كانت أقلامه تكثر رماحنا وسيوفنا.


بنو رسول (أسرة المترجم له):
بنو رسول هم أولاد صاحب هذا اللقب واسمه: محمد بن هارون بن أبي الفتح بن يوحى بن رستم، من ذرية قبلة بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة بن عمر بن جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر (ماء السماء) بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فهو القحطاني، ثم الكهلاني، ثم الغساني، ويقال إنهم ليسوا عربًا البتة، وإنما هم تركمانيون والله أعلم، والمنسوب إليه هذه الدولة محمد بن هارون هو الذي لقب برسول، لأنه كان يحمل الرسائل من الخليفة الناصر العباسي من بغداد إلى صاحب مصر وبالعكس، وهو ذكي فطن، ويعتمد عليه في حمل الرسائل والكتب السرية، حتى قربه الخليفة واصطفاه لهذه المهمة وأصبح معروفا بها، وولده عليّ هو الذي خرج مع السلطان طوران شاه إلى اليمن ومعه أولاده الأربعة؛ بدر الدين الحسن، ونور الدين عمر، وفخر الدين أبو بكر، وشرف الدين موسى، فأما نور الدين عمر بن علي بن رسول فهو الذي أسس الدولة وتلقب بالمنصور.

وكان آخر ملوك الأيوبيين في اليمن ـ كما علمت ـ هو المسعود ابن العادل الذي قبض على الثلاثة من أولاد علي بن رسول وبعث بهم إلى مصر خشية أن يتمردوا عليه ويغلبوه على الحكم، وهم الحسن وأبو بكر وموسى، واستعان بالرابع وهو عمر فكان يوليه وينيبه عنه حتى إنه استخلفه على اليمن حين ذاهب راجعًا إلى مصر، ومات في الحجاز بداء الفالج فقام عمر بن علي بن رسول بالأمر لنفسه واستولى على اليمن وظل مع الأيوبيين في حرب مستمرة يدخل مكة حينًا ويطرده عنها الملك الكامل حينًا آخر من سنة 626هـ إلى 639 هجرية،

وفي سنة 630 تم له الملك في اليمن كله من حضرموت حتى خارج حدود اليمن (مكة)، وخرج عنها بعد ذلك وعاد إليها سنة 635هـ بجيشه فاتحًا، واستناب عليها وهو راجع اليمن ابن الوليد وابن التعزي، ثم أخرج أيضًا في 638هـ وعاد إليها في السنة التي تليها، واستمر ملكه إلى سنة 647هـ وهي آخر حياته، وكان قد بعث بالهدايا إلى الخليفة العباسي وطلب منه النيابة على اليمن، فجاءه التشريف بذلك بحرًا من طريق البصرة، فأصبح الملك المطلق يدعى له على المنابر، وتضرب السكة على اسمه، وقد ظفرت بقطعتين من تلك العملة إحداهما في سنة 646هـ ولا أدري أيتهما ضربت في عدن وصنعاء، والقطعتان موجودتان في بيت المشايخ آل سالم علي عبدالله، والكتابة عليهما لا تقرأ إلا بآلة مجسمة، وأظن كثيرًا من قطع النقود المستعملة في اليمن توجد اليوم في دار الآثار العدنية، وربما تكون منها هذه العملة المنصورية. (من أشعة الأنوار للبيحاني)،

وقال المرحوم مصطفى السقا في مقدمته للمعتمد: (ينتهي نسب هذه الأسرة التي حكمت اليمن من 626 إلى 803هـ ـ على ما فصّله الخزرجي الزبيدي في كتابه (العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية) ـ إلى الغسانيين من بني جفنة الذين جلوا عن اليمن قبل الإسلام عند خراب السد، وسكنوا الشام وملكوا عليها من جهة ملوك الروم، وكان آخرهم جبلة بن الأيهم وقصة إسلامه في خلافة عمر ثم ارتداده قصة مشهورة، وقد لحق بالشام ثم ببلاد الروم وهلك فيها، والرسوليون من أبناء جبلة، فقد بقيت ذريته في الروم مدة ثم انتقلوا إلى بلاد التركمان مع فريق من أقوامهم، وتكلموا بلغتهم وبعدوا عن العرب، فانقطعت أخبارهم وهم مقيمون على أنسابهم، ثم خرجوا إلى العراق فنسبهم من عرفهم إلى غسان، ونسبهم من لا يعرفهم إلى التركمان، وأول من ظهر منهم في العراق محمد بن هارون بن أبي الفتح بن يوحي بن رستم، وكان جليل القدر، فقربه الخليفة المستضيء العباسي، وأنس به، واختصه بالسفارة إلى الشام ومصر، فأطلق عليه لفظ رسول، وشهر به، وترك اسمه الحقيقي حتى جهل، فلا يعرفه إلا قليل من الناس.


المراجع:

1 ـ (المعتمد في الأدوية المفردة) لصاحب الترجمة الملك المظفر يوسف بن عمر، بيروت، 1402هـ/1982م.

2 ـ (أشعة الأنوار على مرويات الأخبار) الإمام البيحاني، القاهرة، 1391هـ/1971م.

3 ـ (حكام اليمن المؤلفون) عبدالله محمد الحبشي، بيروت، 1399هـ/ 1979م

4 ـ (الأعلام) خير الدين الزركلي، بيروت،1984م.

 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/76-Eighteenth-number/762-King-Muzaffar-Yusuf-ibn-Umar