logo.png
المتتاليات الرسوبية ..سجل التطور الزماني - المكاني لوجه الأرض
طباعة




المتتاليات الرسوبية ..سجل التطور الزماني - المكاني لوجه الأرض

عبدالإله بن المصباح


المغرب

قبل التطرق إلى جانب الإعجاز العلمي الذي نلمسه في إيقاع التوضعات الرسوبية لسطح الأرض، أريد أن أُلْفِتَ النظر إلى أن التدبر في مثل هذه الظواهر يعد من قبيل المعاينات الدالة على توافق آيات الكتاب مع آيات الكون المتجلية في كل شيء، فإذا كانت الأرض تحمل في طياتها آثار ما أفناه الخالق ـ سبحانه ـ فإن البحث في طبقاتها والتنقيب في أرجائها هو الكفيل بإيصال السالك إلى إدراك حقيقة الوجود والاطلاع على عظمة الموجد ـ عز وجل ـ وكتاب الله خير شاهد على هذا النهج إذ نجد أن السور فصلت فيه تفصيلاً علميٌّا يجعل الدارس ـ إن هو تدبر معاني الآيات ـ يكشف بمحض عقله مدلول الخطاب؛ يقول ـ سبحانه وتعالى: (
وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُون
) (الأعراف 52)، فنجد في أكثر من سورة ـ وسورة النبأ خير مثال ـ أن التذكير بعالم الغيبيات من قيامة وبعث وحساب وجنة ونار غالبًا ما يكون مسبوقًا بإظهار عالم المحسوس من سماء وأرض وشمس وقمر ورياح ومطر وما إلى ذلك مما هو متعارف عليه عند البشر حتى يطلعهم الله ـ تعالى ـ على قدرته، فإذا رأى الإنسان دلالات هذه اليقينيات الكونية أدرك قدرة مبدعها، وحصل له اليقين بأن ما جاء في كتاب الله ـ تعالى ـ من وعد ووعيد هو من صميم الغيبيات التي لا ريب في وقوعها

وإذا كان التأمل في التشكيلات والمقاطع الجيولوجية يوحي بروعة بنائها ودقة انتظامها، فإن النظر في كيفية ترتيب طبقاتها الرسوبية يكشف عن منطق عجيب في الترابط القائم بين امتداد هذه الطبقات في المكان وتعاقبها في الزمان. ولعل ما يسترعي الانتباه خضوع هذه التوضّعات الرسوبية لمسطرة هندسية محكمة تعمل وفق محورين أساسين؛ ألا وهما بعدي الزمان والمكان اللذين يوحيان بأن الطبقات الرسوبية المتعاقبة في الزمان كانت بادئ الأمر متجانبة في المكان، الشيء الذي يضطرنا إلى ضرورة الأخذ بفكرة المنظومة الزمانية المكانية لفهم حقيقة التطور الجيولوجي للتشكيلات الرسوبية لوجه الأرض، ولتحصيل هذا المعنى سنعمل ـ وبالله التوفيق ـ على تفسير عملية الترسب من خلال الوقوف على ظاهرتي طغيان البحر وتراجعه، وتأثير ذلك على الترتيب الزماني والتوزيع المكاني للرواسب عبر ملايين السنين.

تعتبر عملية الترسب (sedimentation) نتاج ثلاث عمليات مترادفة تتمثل في: التعرية: (erosion)، والنقل (transport)، والتوضّع (depot)، بحيث تعمل التعرية على تفتيت الصخر أو تحليله ثم تحرير أجزائه التي تنقل عبر مجاري الأنهار أو بفعل الرياح إلى أن تتوضع أخيرًا في البحر، ونظرًا للتفاعل الحاصل بين تأثير جاذبية الأرض وتأثير قوة دفع الماء وتياراته فإن الرواسب تتوزع أفقيٌّا بين الساحل ووسط الحوض البحري حسب وزن القطع المحمولة بحيث يتوضع في مرحلة أولية حين وصوله إلى الساحل الحصى ثم الرمل بينما تستمر الحبات الطينية في تنقلها عبر مياه البحر إلى أن تستقر في وسط الحوض كما يبين الشكل التالي:

وبذلك يكون التوزيع الأفقي للرواسب موازيًا لتطور عمق الحوض الرسوبي بحيث نجد دائمًا في الساحل نظرًا للعمق الضئيل والحركة المائية القوية الحصى والرمل، بينما في وسط الحوض العميق والهادئ لا تصل إلا الحبات الصغيرة جدٌّا وهي الطينية.





وهذا التوزيع الأفقي نجده يعاد طبقًا لأصله في الترتيب العمودي إذا حدث عبر الزمان تراجع للبحر (regression) أو طغيان (transgression)، ففي حالة تراجع البحر يسجل الحوض تحولاً تدريجيٌّا إلى ظروف قارّيّة، وذلك نتيجة زحف الرواسب من البَرّ وتراكمها في قاع الحوض فيمتلئ هذا الأخير وتتكون تشكيلة رسوبية تترجم مستوياتها المتراكبة عبر الزمان (superposes) ما سبق أن سجلته أجزاء الحوض المتجانبة في المكان (juxtaposes)، فإذا حفرنا ثقبًا عموديٌّا (forage) في عمق التشكيلة لمعرفة الترتيب الزماني للرواسب وجدنا تسلسلاً من الأسفل إلى الأعلى يماثل التسلسل الأفقي للرواسب من وسط الحوض إلى ساحة كما يبين الشكل التالي:

فكما يبين محتوى الثقب يعبر الترتيب العمودي للرواسب على عامل الزمان وهو يترجم تسلسلاً تراجعيٌّا من الطين الدال على عمق الحوض إلى الحصى الدال على الساحل، فيعيد بذلك تسجيل التوزيع المكاني للرواسب ويجعل الظرفية الزمانية مرآة للظرفية المكانية، أما في حالة طغيان البحر فإن المياه ستغمر أراضي يابسة وتحولها إلى مناطق بحرية، فيصير محتوى الثقب الذي هو الإيقاع العمودي للتوضعات الدال على الزمان مترجمًا للتسلسل الأفقي الدال على المكان وشاهدًا على تحول المنطقة من بَرّ إلى بحر كما يبين الشكل التالي:

وهكذا في كلتا الحالتين تبقى المتتاليات الرسوبية (sequences sedimentaires) التي توجد فيها التوضعات متراكبة بعضها على بعض تعبيرًا على الإيقاع الزماني لعملية الترسب التي هي في واقع الأمر إعادة مجسدة للتوزيع المكاني، فيبقى المكان شاهدًا على ما أفناه الزمان، والزمان مرتبًا ومعيدًا لما سجله المكان، فسبحان الذي ناسق بين هذين البعدين وجعلهما أداتين للبحث والتنقيب في ملكوته، فقال ـ وهو أصدق القائلين:

(
قُلْ سِيرُواْ فِى الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ
) العنكبوت 20، وهذه الآية يمكن اعتبارها قاعدة الأساس للنظر في ملكوت الله، أرسى بها الحق ـ سبحانه ـ منهجية البحث في مجالات خلقه، فرسم للسالك الطريق عبر محورين أحدهما أفقي وهو بعد المكان المعبر عنه بالسير في الأرض والثاني عمودي وهو بعد الزمان المعبر عنه بالمدة الفاصلة بين بدء الخلق ونشأته الآخرة، فجعل ـ سبحانه ـ هذين البعدين ركيزتين أساسين للإحاطة بحقيقة الوجود بحيث يمكن التنقل الأفقي من إدراك أوجه الاختلاف والتشابه عبر المكان بينما يبين الترتيب العمودي فعل الزمان كأداة ذلك الوصول إلى التيقن من أن الله على كل شيء قدير.

فإذا سلك الباحث هذا المسلك أحاط بحقائق الأشياء وفقًا للمنهج الرباني الذي جعل البحث والتنقيب في أرجاء الأرض سبيلاً لتقوية اليقين مصداقًا لقوله ـ تعالى: (
وَفِى الأَرْضِ ءَايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ
) الذاريات 20. وهذا مثال من جملة أمثلة لا تحصى في عالم الماديات المحسوسة أراد الله ـ تعالى ـ بها أن تكون قناعات عقلية على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم حيث قال ـ تعالى: (
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَالِمُونَ
) العنكبوت 43، وحتى يبقى القرآن الكريم على تعاقب الزمان وامتداد المكان شاهدًا على عظمة الله ـ تعالى ـ وصدق رسالة نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم. 
 
https://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/70-Issue-XII/619-Sedimentary-sequences-Record-temporal-evolution-spatial-earth