فراشة في طوكيو تحدث زلزالاً في نيويورك | العدد الخامس
فراشة في طوكيو تحدث زلزالاً في نيويورك
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



فراشة في طوكيو.. تحدث إعصارا في نيويورك!

د. عدنان محمد فقيه قسم الإحصاء


كلية العلوم جامعة الملك عبد العزيز - جدة

ما هي علاقة الماضي بالمستقبل؟ هل هي علاقة سببية؟ وأي منهما الذي يؤثر على الآخر؟ هل الماضي ينتج المستقبل أم أن المستقبل هو الذي يستدعي الماضي؟ وماذا يمكن للعلم أن يقدم في هذا المجال؟ أسئلة كثيرة تدور أو يدور مثلها أو بعضها على الأقل في ذهن من يشتغل بالتنبؤ العلمي بالظواهر والأحداث المختلفة. ومدار هذه الأسئلة حول مدى إمكانية التنبؤ بالمستقبل.




وحول الشروط التي يجب توافرها في أي نموذج يسعى لتحقيق ذلك - لا شك أن التنبؤ بجميع تفاصيل المستقبل أمرٌ لا يعلمه إلا الله, ولكن لا شك أيضا أن معرفة بعض هذه التفاصيل أمرٌ مقدور للبشر وشواهد ذلك أكثر من أن تحصى خذ مثلا تنبؤك بحدوث الأشياء وفقا للسنن الثابتة المعروفة كالتنبؤ بغليان الماء عند رفع درجة حرارته إلى 100 درجة مئوية, أو تنبؤك بولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل. إن هذا النوع من التنبؤ يسير وفقا لسنن ثابتة مستقرة لا تتبدل ولا تتغير, وهذه السنن تمكننا من القيام بعملية التنبؤ المذكورة آنفا, وقد تقول لي مهلا ليس هذا هو المقصود بالتنبؤ فإن التلازم السببي بين المقدمة والنتيجة فيما ذكرت أمر معلوم ضرورة ولا يعدو أن يكون تطبيقا لقانون طبيعي معروف, فأقول هذا صحيح ولكنه يدخل بالتعريف ضمن نطاق التنبؤ بالمستقبل, ولهذا السبب ذاته افتتن كثير ممن بهرهم التقدم العلمي وظنوا أن الكشوف العلمية لخفايا القوانين الطبيعية المختلفة تغني عن وجود خالق لهذا الكون يؤثر على مستقبل الأشياء ويأمر الأحداث فتنفعل وفقا لمشيئة, فلا مكان له في كونهم ما دام يمكن حساب وقوع الأحداث من عدم وقوعها بقوانين ثابتة ومعروفة لدى الجميع. وظن هؤلاء- لبرهة من الزمن- أنه بإمكانهم أن يعلموا مستقبل كل شيء إذا علموا القوانين التي تحكم كل شيء. ورغم أن العلماء في عصرنا هذا قد تراجعوا عن هذه الفكرة تماما - للأسباب التي سنُبيِّنها لاحقا - إلا أن البعض لا يزال متأثرًا بهذا الاتجاه - بشكل مباشر أو غير مباشر - وخصوصا أن الكثيرين من القائمين على الشؤون العلمية في الإعلام الغربي يسعون لترسيخ فكرة «كمال» العلم وقدرته اللامحدودة في حل المعضلات وذلك على المستوى النظري - في أقل تقدير.

غير أن التنبؤ بالمستقبل ارتبط في أغلب الأحيان بالنظم التي لا تحكمها قوانين محددة, مثل التنبؤ بالأحوال الجوية, أو التنبؤ بارتفاع أو انخفاض أسعار العملات في أسواق المال العالمية, أو بحدوث زلزال في بقعة من بقاع الأرض, وهذا النوع من التنبؤ يتقاسمه عاملان: عامل «مشاهد» نلحظ أثره بالتجربة ونحصي شواهده بالوسائل العلمية المختلفة ولكننا في الوقت نفسه نلاحظ قصوره عن الإحاطة بالظاهرة التي ندرسها في كثير من الحالات التي تخفق فيها توقعاتنا وتنبؤاتنا, وعامل آخر هو عامل «غيبي» لا تدركه حواسنا ولا أدواتنا ولكننا نؤمن به ونسلم بوجوده بوصفنا مسلمين, وبين هذين العالمين؛ عالم الغيب, وعالم الشهادة تقع جميع الظواهر والأحداث في الكون. ونحاول في هذا المقال أن نلقي بعض الضوء على ظاهرة كونية أدهشت العلماء لفترة من الزمن, يمكن أن تكون شاهدًا من عالم الشهادة على عالم الغيب, إذ إنها تؤثر في مستقبل الأشياء أشد التأثير, ومع ذلك فقد أعلن العلم عجزه عن تتبع آثارها أو التنبؤ بتداعياتها مهما طال به التقدم. ذلك أن الشأن لا يتعلق بتقدم العلم أو تأخره ولكن يتعلق بطبيعة الأشياء التي فطر الله الكون عليها, وبذلك يقر العلم ويسلم بوجود نوع من الظواهر لا يمكن للإنسان التنبؤ بها مع أنها محكومة بقوانين ومضبوطة بأنساق تهيمن عليها وتنفي عنها أي عشوائية مظنونة.

الحتمية العلمية واحتمالية «عدم التحديد»:

عندما كشف نيوتن اللثام عن قوانين الحركة - التي تنسب إليه - كان ذلك حدثا علميا كبيرا, أدى إلى التساؤل عما يمكن أن يقدمه العلم لفهم الكون ومعرفة أسراره. وأدى هذا الحدث العلمي الضخم إلى تطرف بعض العلماء - الذين جاءوا بعد نيوتن - في تصورهم عن مستقبل العلم, وما يمكن أن يؤول إليه الحال إذا ما تم الكشف عن جميع القوانين التي تنظم شؤون الكون, وتصور بعضهم أن المسألة مسألة وقت وأن هذا الكون يمكن تشبيهه بساعة ضخمة تنتظر أن يكشف عن القوانين التي تحكمها ليصبح التنبؤ بالأحداث التي تقع فيه بعد ذلك أمرًا واضحا ويسيرًا, مثل عملية التنبؤ باتجاه حركة عقارب الساعة! وكما أن الساعة لا تملك إلا أن تسير إلى الأمام بالطريقة المعروفة فكذلك الكون لا يملك إلا أن يسير وفق قوانين محددة وواضحة, وما عليك إلا أن تكتشف هذه القوانين لتعلم مستقبل الكون, بما في ذلك طبعا مستقبل الكوكب الذي نعيش عليه والظواهر الطبيعية التي تحكمه من أمطار وزلازل وبراكين وغير ذلك. بل إن العالم الفرنسي لابلاس Pierre Simon de Laplace (1749-1827م) الذي تأثر باكتشاف قوانين نيوتن الحتمية ذهب إلى أبعد من هذا, فقد زعم أنه يمكن أيضًا التنبؤ بمستقبل الإنسان وأفعاله (في نسخة متطرفة من هذه النظرية!!) وذلك بشرط المعرفة الكاملة للحالة الراهنة لكل جزء من أجزاء الكون, وسميت هذه النظرية آنذاك بعقيدة: الحتمية العلمية (Determinism Scientific) كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر, واستمر ذلك التصور الحتمي للكون سائدا حتى أوائل القرن العشرين حينما أعلن العالم الألماني هيزنبرغ Heisenberg في العام 1926م عن اكتشاف مبدأ «عدم التحديد Uncertainty Principle» والذي يقضي باستحالة معرفة مكان وسرعة الجسيم Particle بشكل دقيق وفي آن واحد, فكلما زادت دقة معرفتنا بمكان الجسيم, قلت الدقة في معرفة سرعته, والعكس صحيح, لقد هز مبدأ عدم التحديد العلماء وقلب المفاهيم الفيزيائية رأسا على عقب, فلم يعد بإمكان العلماء نظريا - وليس عمليا فحسب - أن يتنبأ بتصريف جسيم ضئيل كالإلكترون مثلا, بل لم يستطع العلماء حتى الآن إيجاد تفسير مادي معقول ومتفق عليه لدلالات هذا المبدأ العجيب, لقد وضع مبدأ عدم التحديد حدًّا للمعرفة الإنسانية, وأدخل الاحتمالات إلى عالم الفيزياء, بل قل - إن شئت: أدخل الفيزياء الحديثة إلى عالم الاحتمالات, وكان من آثاره نشوء فيزياء الكم Quantum physics والتي يمثل هذا المبدأ أحد الدعائم الرئيسة لها. وكان من آثاره أيضا أن اهتزت عقيدة الحتمية العلمية - التي أشرنا إليها - هزة عنيفة, ومارت الأرض من تحت أقدامها, فها هو «العلم» الذي اتكأت عليه يقول على لسان مبدأ عدم التحديد: إن هناك نظما وظواهر لا يمكن معرفة حالتها الراهنة (حاضرها) على وجه التحديد من حيث المبدأ, فضلا عن معرفة مستقبلها وما ستؤول إليه!
ولم يلبث العلم إلا قليلا حتى كشف لنا عن ظواهر أخرى عجيبة لعبت دورًا مهما في تصورنا عن مستقبل العلم وبالذات فيما يخص عقيدة الحتمية العلمية. وسميت هذه الظواهر بالظواهر «الفوضوية» نسبة إلى «نظرية الفوضى Chaos theory» وسيرى القارئ أنها أبعد ما تكون عن الفوضى وأقرب ما تكون إلى النظام والانضباط(يبدو أن العقلية الغربية «العلمية» قررت منحها هذا الاسم حتى يكون ذلك ردعًا لها ولأمثالها من الظواهر الأخرى التي تستعصي على فكرة تأليه الإنسان وقدرته على «قهر» الطبيعة والسيطرة عليها), ولكنني مضطر لاستخدام المصطلح نفسه بعد أن أصبح عَلَمًا على هذه الظاهرة. ويمثل اكتشاف الظواهر الفوضوية الضربة الثانية والقاضية على عقيدة الحتمية العلمية بعد مبدأ عدم التحديد, ورغم أن اكتشاف هذه الظواهر يرجع إلى العام 1903م على يد العالم الرياضي بوينكير Poincare, إلا أن الفضل في تسليط الضوء عليها وإحياء البحث فيها من جديد يعود إلى عالم الأرصاد إدوارد لورنز Edward Lorenz الذي أعاد اكتشافها في العام 1961م حينما كان يعمل على صياغة نموذج رياضي للتنبؤ بحالة الطقس. حاول لورنز باستخدام حاسبه البدائي أن يتنبأ بحركة الريح في الأيام المقبلة وذلك بواسطة نموذج يحتوي على عدد من المعادلات الرياضية - جريًا على ما يحدث عادة في السلاسل الزمنية - بافتراض وجود علاقة بين حركة الريح اليوم وحركتها في اليوم التالي. وبعد صياغة هذه العلاقة رياضيا, فإنه يمكن تغذية الحاسب بالبيانات المتوفرة حول حركة الريح اليوم, لنحصل على تنبؤ بالحركة في اليوم التالي. وباستخدام النتيجة المتنبأ بها لحركة الريح في الغد يمكن التنبؤ بالحركة ليوم بعد غد, وهكذا فإنه بتغذية الحاسب ببيانات اليوم يمكن التنبؤ بحركة الريح على مدى شهر أو أكثر, كانت الأمور تسير على ما يرام - في تصور لورنز على أقل تقدير - إلى أن أراد ذات يوم أن يدرس جزءًا معيّنًا من السلسلة الزمنية التي لديه بشيء أكثر من التفصيل, وحيث إنه قد أنتج هذه السلسلة من قبل كما أسلفنا, فإنه قرر أن يأخذ رقما من منتصف السلسلة ويغذي به الحاسب الآلي مفترضا أن التنبؤات التي سيحصل عليها ستكون موافقة تماما لما حصل عليه من قبل لأن هذه العملية هي التي كان يفعلها الحاسب الآلي تلقائيا ليحصل على قيم التنبؤات السابقة, الفرق الآن فقط هو أنه قام بإدخال المعلومات يدويا بدلًا من أن تكون تغذيتها تلقائيا. توقع لورنز أن يحصل على نفس النتائج السابقة والمتعلقة بالفترة التي يدرسها.. غير أن الذي حدث شيء آخر تماما! لاحظ لورنز أن النموذج بدأ يعطي نتائج مختلفة قليلا - في أول الأمر - عن النتائج السابقة.. وأن هذا الاختلاف يزداد شيئا فشيئا حتى لا يكاد يلمس أي تشابه بين النتائج الحالية والنتائج السابقة, وبعد البحث والتحري اكتشف لورنز أن الفرق الوحيد الذي يمكن أن يعزى إليه هذا الاختلاف الكبير في النتائج يكمن في البيانات الأولية التي غذيت بهما التجربتان. لقد كانت البيانات المدخلة في التجربة الأولى تؤخذ تلقائيا من الحاسب الآلي وهذا يعني أنها صحيحة لستة أرقام عشرية، بينما كانت البيانات المدخلة في التجربة الثانية, لأن الطابعة المتصلة بالحاسب كانت لا تطبع أكثر من 3 أرقام عشرية، لقد كان التقريب طفيفا جدًّا. لم يكن يتصور أن هذا التقريب سيكون له أي أثر يذكر في إحداث فرق بين نتائج التجربتين, فضلا عن أن يكون سببا في تباين النتائج بشكل هائل وغير متوقع في المراحل المتقدمة من السلسلة الزمنية.
لقد كشفت هذه التجربة عن وجود نوع من النظم الحتمية (من حيث إنها تقوم على عدد من المعادلات الرياضية المحددة) تتأثر كثيـرًا بالظروف الأولية التي تغذى بها, بحيث يصبح تتبعها والتنبؤ بنتائجها على المدى البعيد ضربا من المستحيل. ويمثل عادة لهذه النظم - بما يعرف بـ «أثر الفراشة» Butterfly effect وهو كيف أن خفق فراشة لجناحيها في طوكيو يترتب عليه حدوث إعصار في نيويورك!!.. فبالرغم من أن تأثير الهواء الذي تدفعه الفراشة بجناحها ضئيل جدًّا, إلا أن تراكماته وتداعياته تتضاعف كلما مر الزمن لتكون أو لتساهم في تكوين حدث ضخم كالإعصار على المدى البعيد!! هذه النظم الحتمية في إطارها العام والشديدة الحساسية في تأثرها بحالتها الأولية سميت بالنظم «الفوضوية», ولعله كان من الأنسب لها أن تسمى بالنظم المنضبطة لأن «الفوضى» الناشئة من هذه النظم ليست صفة ذاتية فيها وإنما هي بسبب عجزنا عن قياس حالتها الأولية, بدقة كافية. وعلى العكس مما يوحيه الاسم فإن نظرية الفوضى كشفت عن النظام والدقة المختبئين وراء كثير من الظواهر التي تبدو عشوائية في أعيننا لأول وهلة, وأثبتت لنا هذه النظرية أن عدم قدرتنا نحن البشر على معرفة مستقبل الأشياء لا يعني أنها عشوائية, بل إن هذا فقط يعكس عدم قدرتنا على الإحاطة بظروفها ومعطياتها الأولية, ولكي تتضح الصورة في صعوبة التنبؤ بالنظم الفوضوية سوف نستعرض المثال التالي:

إلى أين ستتجه كرة البلياردو؟ ضرب هذا المثل الفيزيائي النظري مايكل بري (Michael Berry) من جامعة بريستول بقوله(بتصرف وإضافات من كتاب: In Search of Lost Time by Derek York, 1997, Institute of Physics Publishing, Bristol&): لنتصور طاولة بلياردو تحتوي على عدد من الكرات, ولنفترض إلغاء أثر الاحتكاك في عملية الاصطدام بين الكرات في حالة ضربها بالمضرب, وبإلغاء الاحتكاك فإن عمليات الاصطدام الناشئة عن ضربة واحدة سوف تستمر إلى ما لا نهاية ولنتصور الآن أننا نريد أن نتنبأ بموقع إحدى الكرات بعد حدوث عدد من الاصطدامات بينها وبين الكرات الأخرى, ولكي نقوم بهذا العمل فإننا نتسلح بقوانين الحركة المعروفة ونقيس زوايا الارتطام والارتداد والسرعات التي تتحرك بها الكرات داخل الطاولة, ولكننا إذ نفعل ذلك سوف نهمل قطعا الكثير من المؤثرات على حركة الكرات داخل الطاولة مما نعد أن إهماله لن يؤثر على حساباتنا لمسار الكرة المراد دراسته, ولكي يتضح أثر إهمال هذه العوامل بشكل فاضح, لنفترض أننا أهملنا قوى الجذب بين كرتنا المذكورة وبين إلكترون يقع في أقصى مجرة «درب التبانة» التي نسكنها!!

بحساب قوى الجذب بين هذين الجسمين يتبين لنا أن الإلكترون سوف يحدث انحرافا في مسار الكرة مقداره 1×10-99 درجة, أي فاصلة وأمامها الرقم واحد يسبقه تسعة وتسعون صفرًا من الدرجة, لو كانت هذه الكرة تسير في خط مستقيم فإن انحرافا بهذه الضآلة الشديدة لن يؤثر على تنبؤنا بمسارها. فلو سارت الكرة في خط مستقيم مسافة قدرها قطر الكون المعروف فلن يؤثر إهمال الإلكترون على تنبؤنا بمكان وصولها إلا بمسافة تقل كثيـرًا جدا عن قطر ذرة الهيدروجين! لكن الأمر يختلف كثيرا داخل طاولة البلياردو! والسبب في ذلك هو اللاخطية (Non-Linearity) التي تحكم الحركة والاصطدام داخل الطاولة والناشئة عن الانحناء في أسطح كرات البلياردو, الأمر الذي يختلف عن مجرد انطلاق الكرة في خط مستقيم من مكان إلى آخر. إن كل اصطدام يقع بين الكرة المرصودة وإحدى الكرات الأخرى على الطاولة سوف يضاعف من الخطأ الناشئ عن إهمال الإلكترون في حساباتنا بما يقارب العشر مرات. وهذا يعني أنه بعد مائة اصطدام سوف يصبح الخطأ في حساباتنا لمسار الكرة بمقدار درجة واحدة! وبعد الصدام التالي سيصبح 10 درجات والذي يليه سيحدث خطأ مقداره مائة درجة ثم ألفا, وهكذا! أي أننا سوف نفقد الأمل تماما في متابعة مسار الكرة بعد الاصطدام رقم 102 وذلك فقط بسبب إهمالنا لإلكترون في أقصى المجرة!! ولا شك إذا أننا لن نستطيع أن نتابع مسار الكرة إلى ما بعد ثلاث أو أربع اصطدامات بسبب العوامل الكثيرة المعقدة والتي تؤثر في هذا النظام المحدود. هذا فيما يخص التنبؤ بمسار كرة في طاولة بلياردو.. وبقي أن نقول: أن ما يدور في الكون أعقد «قليلاً» مما يدور على طاولة البلياردو!


الإنسان كائن فوضوي!

لنتصور أن رجلا يدعى «مُعمَّـرًا» كان موظفا في إحدى الشركات, كان معمر يستيقظ يوميا في الفجر فيؤدي الصلاة ثم يتناول طعام الإفطار ليذهب بعد ذلك إلى مقر عمله – في الثامنة صباحا, ويبقى هناك حتى الخامسة مساء ليبدأ رحلة العودة إلى منزله من جديد. لقد تعود على هذا النظام سنوات طويلة, غير أنه ذات يوم خرج في فرصة الغداء من عمله – على غير عادته – ليتناول شيئا من الطعام وفي الطريق وأثناء قيادته لسيارته غفل عن ملاحظة إشارة مرورية مما أدى إلى حادث مريع نجا منه هو لكن لم ينج منه الطرف الآخر الذي كان أبا لثلاثة أطفال. كان اسمه «عُميـرًا» وكان يسكن في مدينة أخرى ولكنه جاء إلى المدينة التي يقطنها معمر بغرض السياحة (أو هكذا ظن على الأقل!). وبعد أن أفاق مُعمر من هول الصدمة, أخذ يفكر بالذي حدث ورجع بذاكرته إلى الوراء قليلاً عندما كان في شركته التي يعمل بها وكيف أحس بالجوع - على غير العادة - فقرر أن يخرج ليتناول الطعام خارج الشركة, ولكن لماذا أحس بالجوع - على غير العادة؟.. رجع قليلا إلى الوراء أيضا فتذكر أنه لم يفطر ذلك الصباح - على غير العادة أيضا - فقد استيقظ من نومه متأخرًا.. لماذا؟ لأن ابنته الصغيرة قامت في الليلة البارحة مذعورة بعد أن أحست بعضة بعوضة أيقظتها فأخذت تبكي فاستيقظ هو ولم يستطع أن ينام إلا بعد صلاة الفجر!

لعلك - أيها القارئ الفطن - قد أدركت المغزى من هذه القصة والتي - وإن كانت خيالية في صياغتها - إلا أنها واقعية جدًا في مضمونها وربما استدعت من ذاكرتك - لو تأملت قليلاً - الكثير من مثيلاتها. ولعلك أدركت أيضا وجه الشبه بين خفق الفراشة لجناحها في مكان ما وتسببها على المدى الطويل في حدوث إعصار في مكان آخر وبين عضة البعوضة التي أصابت طفلة صغيرة في بيت من البيوت لتحدث بعد تراكم آثارها وفاة لرب أسرة وتيتيمًا لأطفاله الذين ستأخذهم الأقدار إلى مستقبل آخر مختلف تمامًا عما كان يتصور أبوهم. وكما أن هذه الصورة محزنة مؤلمة فقد كان يمكن أن يكون ضحية الحادث رجلاً آخر غير هذا الأب المسكين, كان يمكن أن يكون شخصًا بغيضًا مؤذيًا, أو آخر جائرًا جبارًا شاء الله بلطيف تدبيره أن يجعل مصرعه على يد بعوضة لتستريح منه البلاد ويتخلص منه العباد: (
وما يعلم جنود ربك إلا هو
)(سورة المدثر, آية 31).

يتبين لنا من هذا المثال أن الإنسان كائن فوضوي (أعتذر مرة أخرى عن استخدام المصطلح - وخصوصا للقراء «المنظمين»!) لذا فلا يمكن التنبؤ بما سيحدث له في المستقبل بسبب كثرة المؤثرات التي حوله والتي تتفاعل بدورها مع إرادته التي منحه الله إياها لتصنع مستقبله. بل إن الأمر أعقد من ذلك فليست إرادته فقط هي التي تتفاعل مع الظروف المحيطة به, بل هناك إرادة غيره من البشر الذين يعرفهم أولا يعرفهم والأحداث التي تقع لهم كل ذلك يؤثر في مستقبله. وقبل هذا وبعده تأتي المشيئة الإلهية التي لا تَنِدُّ عن هيمنتها مشيئةُ مخلوق, ومحصلة القول أن العلم بمستقبل الإنسان مستحيل بشهادة العلم وبشهادة الله قبل ذلك, وأي شيء أكبر منه شهادة! وصدق الله إذ يقول: (
وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت
)(سورة لقمان, آية 34)

التنبؤ من مكان بعيد!

ومنذ أن اكتشفت الظواهر الفوضوية توالت الأبحاث التي تؤكد وجودها في الكثير من المجالات سواء الطبيعية منها مثل حركة الرياح ونزول الأمطار والنظام الشمسي, أو الإنسانية منها مثل أسعار العملات في الأسواق المالية, ويقف الإنسان عاجزًا أمام هذه الظواهر والتي هي في ظاهرها حتمية المسار ولكنها تشترط للتنبؤ بها المعرفة الشاملة والمحيطة والبالغة الدقة لكل مؤثر قريب أو بعيد حاضر أو غائب. وحيث إن الإنسان يعجز عن الإحاطة بهذه المعرفة فإن هذه النظم لا تسمح بالتنبؤ بمستقبلها إلا إذا كان هذا المستقبل قريبا جدا, أما التنبؤ بالمستقبل البعيد فهو بالنسبة لقدرات الإنسان ضرب من العبث ومضيعة للوقت. ولذلك تجد أن نشرات الأحوال الجوية تقتصر دائما على التنبؤ بحالة الجو في الغد أو بعد غد وربما تجاوزت قليلا إلى نهاية الأسبوع وهي في ذلك تخطئ وتصيب, ولكنك لا تجد عالم أرصاد محترما يقول لك: إن السماء سوف تمطر بعد ستة أسابيع في هذه المنطقة أو تلك, أو أن الجو سيكون صحوا هنا أو هناك, ثم يزعم بعد ذلك أن تنبؤه بهذا الأمر مبني على أسس علمية وحسابات رياضية. ولعل في نعي الله سبحانه وتعالى على الكفار رجمهم بالغيب عن بُعد إشارة إلى هذا المعنى وذلك في قوله تعالى: (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد,(سورة سبأ, آية 53) فالذي يقذف بالغيب يعلم أنه ربما أصاب وربما أخطأ, فإذا أضاف إلى ذلك بُعدًا في الزمان أو المكان فإن قذفه بالغيب يصبح أكثر شططا وأبعد عن الحق. أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فإن الأمر يختلف؛ إذ هو محيط بكل الغيوب عالم بها, فالغيب عنده ليس غيبا وإنما شهادة, لذلك وصف نفسه بأنه يقذف بالحق لا بالغيب” قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) (سورة سبأ, آية 48).


وعَوْدًا على بدء, فبإضافة ما تقتضيه «نظرية الفوضى» مع ما يقتضيه «مبدأ عدم التحديد», ينقطع أمل العلم في التنبؤ الدقيق والحتمي للكثير من الظواهر الطبيعية وخصوصا تلك التي تزعم الإحاطة الشاملة بمستقبل الكون, حيث تتطلب نظرية الفوضى المعرفة الدقيقة جدًّا للحالة الأولية للنظام المراد التنبؤ بمستقبله, بينما يضع مبدأ عدم التحديد سقفًا أعلى للدقة في معرفة تلك الحالة الأولية. ونستحضر هنا الكثير من الآيات في كتاب الله والتي تشير إلى علمه الشامل المحيط ومنها قوله تعالى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (سورة يونس, آية 61)وقوله تعالى: وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ) (سورة الجن, آية 28)-وقوله تعالى - في آية كريمة تشير إلى أهمية العلم الشامل والمحيط بكل التفاصيل والدقائق للكون المنظور في عالم الشهادة, وذلك بعد ذكره للغيب وأنه هو وحده الذي يملك مفاتحه: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (سورة الأنعام, آية 59).
لقد علق الأستاذ سيد قطب على هذه الآية بحديث طويل ورائع, أشار فيه إلى أوجه من الإعجاز الذي تضمنته, وذكر من ذلك أن السامع لهذه الآية يدرك أنها من عند الله, فليس من اهتمام البشر ولا من اختصاصهم ولا مما يدور في أذهانهم أن يحصوا أوراق الشجر ولا أن يقسموا الأشياء إلى رطب ويابس, ثم يحاولوا أن يحيطوا علمًا بما هو رطب منها وما هو يابس, إن هذا ليس من كلام البشر وليس من تطلعاتهم.., إلى آخر ما قاله - يرحمه الله - من كلام نافع وبليغ. غير أنه يبدو لي أن في الآية إشارة إلى هذه النظم الفوضوية التي نتحدث عنها, فإن سقوط الورقة من الشجرة وكُمُون الحبة في ظلمات الأرض يعد في ضوء نظرية الفوضى حدثا كونيا مهما يؤثر على ما حوله من الأشياء ويتفاعل معها, وإن كان أثره المباشر قد يخفى عن العين فتهمله. ويمكنك أن تقارن بين خفق الفراشة لجناحها وبين سقوط الورقة لترى ما بينهما من صلة فيما يخص الموضوع الذي نتحدث عنه. إن نظرية الفوضى تقول لنا: إن كل شيء في هذا الكون يؤثر في كل شيء فيه.. ويتأثر بكل شيء فيه.. في شبكة هائلة من الأحداث المتسلسلة والممتدة عبر الزمان والمكان, لا يدرك منتهاها إلا الله وحده. فلا تستغرب إذًا قول أحد الصالحين: «إني لأجد أثر المعصية في خُلُق دابّتي» ولا تقل: وما دَخْلُ المعصية بخُلُق الدابة؟ إلا إذا قلت: ما دخل البعوضة في بيت «معمر» بمستقبل أبناء «عمير»!

مراجع مفيدة في الموضوع:



2. Nina Hall (
1. James Gleick, 1988, Chaos: Making a New Science, Penguin Books, New York.
Ed
), 1992, The New Scientist Guide to Chaos, Penguin Books, London.

3 - Larry S. Liebovitch, 1998, Fractals and Chaos Simplified for the Life Sciences, Oxford University Press, New York.