حكمة تحديد مدة الرضاعة بحولين كاملين من منظور علمي | العدد الرابع
حكمة تحديد مدة الرضاعة بحولين كاملين من منظور علمي
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



أ.د. مجاهد محمد أبو المجد
أقول المفسرين:

يقول بن كثير في تفسير هذه الآية: إنها إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك.

وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون حولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما فلا يحرم (تفسير ابن كثير 1/290،ط دار المعرفة – بيروت) قال الترمذي (باب ما جاء في الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين) عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الطعام" والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين الكاملين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا ومعنى قوله:"إلا ما مان في الثدي" أي في مجال الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم:"وإن إبراهيم ابني وإنه مات وإن له لظئرين تكملان الرضاعة في الجنة" وفي رواية البخاري:"إن له مرضعاً في الجنة"( صحيح مسلم 4/1808، وفتح الباري 3/244) وقال عليه السلام ذلك لأن ابنه إبراهيم مات وله سنة وعشرة أشهر فقال: "إن له مرضعاً "يعني تكمل رضاعته.

والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن على وابن عباس وابن مسعود وجابر وابي هريرة وابن عمر وابن سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور.

ويقول القرطبي قوله تعالى{حولين} أي سنتين كاملتين قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين،وهو يريد حولاً وبعض حول آخر، استنبط مالك رحمة الله تعالى علية ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة، هذا قوله في موطئه(الموطأ 1/604 كتاب الرضاع) وروى شعبة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"لا رضاعة إلا ما كان في الحولين" قال: الدارقطني لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ(الدارقطني 4/174). ويقول الرازي في تفسيره: المقصود بتحديد حولين هو أن للرضاعة حكماً خاصاً في الشريعة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"( تفسير الرازي 6/156). ويقول الشوكاني في تفسيره: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} أي ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً بل هو التمام ويحوز الأقتصار على ما هو دونه(فتح القدير للشوكاني 1/245). إذا علمنا مدة الرضاعة المعتبرة شرعاً هي ما كان في الحولين، فهل لذلك من حكمة أو علة طبية؟

العلم الحديث يجلي الحكمة في الرضاعة الطبيعية حولين كاملين:

ذكر كتاب نلسون وهو أحد المراجع المشهورة في طب الأطفال في طبعته عام 1994م: أن الأبحاث الحديثة أظهرت وجود علاقة ارتباطية قوية بين عدد ومدة الرضاعة من ثدي الأم وبين ظهور مرض السكري من النوع الأول في عدد من الدراسات على الأطفال في كل من النرويج والسويد والدنمارك. وعلل الباحثون ذلك بأن لبن الأم يمد الطفل بحماية ضد عوامل بيئية تؤدي إلى تدمير خلايا بيتا البنكرياسية في الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي لذلك. وأن مكونات الألبن الصناعية وأطعمة الرضع تحتوي على مواد كيميائية سامة لخلايا بيتا البنكرياسية، وأن ألبان البقر تحتوي على بروتينات يمكن أن تكون ضارة لهذه الخلايا، كما لوحظ أيضا في بعض البلدان الأخرى أن مدة الرضاعة من الثدي تتناسب عكسيا مع حدوث مرض السكري لذلك ينصح الباحثون الآن بإطالة مدة الرضاعة من ثدي الأم للوقاية من هذا المرض الخطير وللحفاظ على صحة الأطفال في المستقبل. وبناء على هذه الحقائق برزت في السنوات الأخيرة نظرية مفادها أن بروتين لبن البقر يمكن أن يحدث تفاعلاً حيوياً مناعياً يؤدي إلى تحطيم خلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين. ويعضد هذه النظرية وجود أجسام مضادة بنسب مرتفة لبروتين لبن البقر في مصل الأطفال المصابين بداء السكري بالمقارنة مع الأطفال غير المصابين بالمرض كمجموعة مقارنة(Borch- Nelson (1994) Text book of pediatric, 15th.ed).

وفي دراسة حديثة منشورة في مجلة السكري في يناير 1998م: استخلص الباحثون أن البروتين الموجود في لبن الأبقار يعتبر عاملاً مستقلاً في إصابة بعض الأطفال بمرض السكري بغض النظر عن الاستعداد الوراثي(Scand J Immunol. 1998 Fed, 47: 2, 131-5). وفي دراسة حديثة منشورة في فبراير 1998م في جريدة المناعة أشار المؤلفون إلا أن تناول لبن البقر وبعض الألبان الصناعية كبديل للبن الأم يؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بمرض السكري في هؤلاء الأطفال، وقد أجريت هذه الدراسة على أطفال صغار السن حتى الشهر التاسع من العمر ولهذ نصح المؤلفون بإطالة مدة الرضاعة الطبيعية(Saukkonen et al.,Daiadetologia, 1998 Jan. 4:7,72-8).

وفي دراسة مشابهة منشورة في مجلة السكري يناير 1994م: أوضح الباحثون وجود ارتباط قوي بين تناول منتجات الألبان الصناعية (خاصة لبن الأبقار) في السن المبكر حتى العام الأول من العمر وازدياد نسبة الإصابة بمرض السكري(Garstein He, Diabetes, 1994 Jan. 17:1,13-9). وفي دؤاسة أجريت بقسم الباطنة سنة 1995م تحت إشرافي وجدنا أن الأجسام المناعية المضادة للبن الأبقار وجدت في مصل الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار حتى نهاية العام الثاني أما الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار بعد عامين من العمر فلم يتضح فيهم وجود هذه الأجسام المناعية مما يظهر جلياً حكمة تحديد القرآن الكريم للرضاعة بعامين كاملين.

لكن لماذا يسبب لبن الأبقار هذا الضرر قبل العام الثاني بينما يزول الأثر السيء للبن الأبقار بعد هذه المدة؟

في دراسة إجريت بفنلندا عام 1994م منشورة في مجلة المناعة الذاتية(Autoimmunity 1994 23:165-74): يقول المؤلفون: أن بروتين لبن الأبقار يمر بحالته الطبيعية من الغشاء المبطن للجهاز الهضمي نتيجة عدم اكتمال نمو هذا الغشاء من خلال ممرات موجودة فيه. حيث إن إنزيمات الجهاز الهضمي لا تستطيع تكسير البروتين إلى أحماض أمينية ولذلك يدخل بروتين لبن الابقار كبروتين مركب مما يحفز على تكوين أجسام مناعية داخل جسم الطفل.

وتشير المراجع الحديثة إلى أن الإنزيمات والغشاء المبطن للجهاز الهضمي وحركية هذا الجهاز وديناميكية الهضم والامتصاص لا يتكل عملها بصورة طبيعية في الأشهر الأولى بعد الولادة وتكتمل تدريجيا حتى نهاية العام الثاني(Lucas et:(1992) Lancet 59722-730).

ومجموع هذه الأبحاث يشير إلى أنه كلما اقتربت مدة الرضاعة الطبيعية من عامين كلما قل تركيز الأجسام المناعية الضارة بخلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين وكلما بدأت الرضاعة البديلة وخاصة لبن الأبقار في فترة مبكرة بعد الولادة كلما ازداد تركيز الأجسام المناعية الضارة في مصل الأطفال(Pettitt et;(1997) Lancet:16-168).

وفي إشارة علمية دقيقة أخرى للقرآن الكريم نراه يحدد مدة الرضاعة بما يقرب من حولين كما جاء في الآية رقم 14 في سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} والآية رقم 15 في سورة الأحقاف {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} ويفهم من هذا إن أرضاع الحولين ليس حتماً بل هو التمام، ويجوز الإقتصار على ما هو دونه، كما أشارت الأحكام الإسلامية الخاصة بالرضاعة إلى ذلك اعتمادا على قوله تعالى:{فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عيهما..}الآية. يقول بن كثير- رحمه الله- أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا ذلك في مصلحه له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عيهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك بدون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره. وهذا فيه احتياط للطفل والتزام للنظر في أمره وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه(14).

وهكذا يتضح جلياً حكمة تحديد الرضاعة بحولين كاملين في إشارة علمية دقيقة من القرآن الكريم. وجاءت الأبحاث العلمية الحديثة لتؤكد ولتبرهن على صدق إعجاز ما أخبر به القرآن الكريم، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام

قال تعالى:{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فصلت53.