الرصد العلمي
(أولاً) التعريف:
الشيخوخة Senescence حالة متدرجة لا مفر منها من التدهور Deterioration والانهيار Decline تصيب كافة الأجهزة والأعضاء والأنسجة والخلايا فتضعف قدرتها على التكيف والحفاظ على التوازن عند التعرض للضغوط، ويمر بها كل كائن حي عند الهِرَم Aging وفقًا لنوعه في طول الأجل Longevity إذا لم تعجل بموته عوارض بيئية أو أمراض، ولذا فالنظرة الحديثة أنها حالة تدمير ذاتي مبرمج Phenoptosis يفسح المجال لأجيال جديدة وأنماط تحافظ على استمرار الحياة وتنوعها، والشيخوخة ليست حالة مرضية وإنما هي مرحلة تكثر فيها الأمراض وحينئذ تصبح شيخوخة مَرَضية Senility وتفاصيل ذلك يعتني بها علم جديد اسمه علم الشيخوخة Gerontology
(ثانيًا) مظاهر التدهور والارتداد:
(1) الجهاز العصبي: وجد إحصائيٌّا أن الجسم البشري يحتوي على حوالي 60 ترليون (مليون مليون) خلية وأن حوالي 80% منها يتجدد ويستبدل في حوالي ثلاثة أشهر، وتختلف الخلايا كثيرًا في قدرة التجدد Renewal Capacity, ففي جانب لا يحدث تجدد في الخلايا العصبية وفي الجانب الآخر يكون على أشده في نخاع العظام الباني لخلايا الدم وفي الطبقة السطحية للجلد وكذلك في الطبقة الداخلية المبطنة للأمعاء، وإذا أصيبت خلية عصبية وماتت لا تعوض؛ ولذا يقل عدد خلايا المخ بالتدريج وتقل الليفات العصبية كلما تقدم العمر، فمثلاً تقل ليفات العصب البصري حوالي 25% في سن التسعين مقارنة بعددها عند الولادة، ونتيجة لتحلل الليفات العصبية قد تتراكم مادة بين الخلايا العصبية خاصة في منطقة الناصية تسمى لطع الشيخوخة Senile Plaques, وبعد الأربعين تتآكل بعض خلايا المخ ويتناقص حجمه وتتوسع التجاويف بداخله، وفي الستينيات والسبعينيات يزداد ضمورًا، وكلما تقدم العمر يقل عدد المستقبلات المختصة بالانتفاع بالسكر، وتكثر الشكوى من الاضطراب في النوم والتغير في المزاج Mood وتضعف الذاكرة قصيرة الأمد ويصعب اكتساب معرفة في مجال مهني جديد، وتتأخر الاستجابة للمؤثرات، وقد يستطيع المخ الحفاظ على التوازن ـ في الظروف غير المرضية ـ لأن الاحتياطي المدخر من الخلايا كبير ولكنه قد يفقد توازنه خاصة مع نقص كمية الأكسجين الواردة نتيجة لتصلب الشرايين. وفي الشيخوخة تكثر الإصابة بالأمراض خاصة خرف الشيخوخة Senile dementia المصاحب لمرض الذهان Alzheimer, وهو مرض مجهول السبب تتآكل فيه خلايا المخ ويزداد ضموره وتتأثر الذاكرة كثيرًا ويفقد المريض الكفاءة المهنية والمهارات اللغوية والحكم الصحيح ويذهل عن المكان والزمان وتتغير شخصيته، بالإضافة إلى إصابته بالخرف والاكتئاب أو الهيجان والهوس وتسلط الوساوس والمخاوف، وتظهر الأعراض بالتدريج وتكثر بعد الخامسة والسبعين.
شكل(1): استهلاك السكر (اللون الأحمر والأصفر) طبيعي في الشخص البالغ (أ) أقل في مرض الذهان البسيط (ب) وبالغ النقص في الذهان المتقدم (ج)و(د) يماثل تماماً حالة الرضيع.
(2) الحواس: تنقص كفاءة الحواس جميعًا: السمع والبصر واللمس والشم والتذوق، وقد لوحظ بعد سن الخمسين تراجع بطيء في القدرة على إدراك الموجات الصوتية ذات الترددات العالية، وهذا قد يخل بحدة السمع وقدرة تمييز الأصوات المتداخلة والتعرف على الأشخاص من أصواتهم، وقد يقل التأثر لاحقًا بالموجات ذات التردد المنخفض كذلك فيضعف جهاز السمع، وتقل سرعة التأقلم عند الانتقال إلى الأماكن المظلمة وتقل الرؤية الليلية وتقل سعة بؤبؤ العين Pupil ولذا قد يميل كبار السن إلى الإضاءة القوية، وتضعف مرونة عدسة العين ولذا يغلب استعمال النظارات كلما تقدم العمر، وفي دراسة إحصائية لمجموعة تجاوزت سن الخامسة والستين مقارنة بمجموعة أخرى في العقدين الثالث والرابع وجد أن نسبة الإصابة بالعمى قد تضاعفت في المجموعة الأولى الأكبر سنٌّا حوالي 17 مرة وأن نسبة الإصابة بالصمم قد تضاعفت حوالي 110 مرات، وبعد سن السبعين يقل عدد خلايا التذوق في اللسان ولذا يضعف التذوق وتقل المتعة بالطعام.
شكل(2): المخ طبيعي من 20 إلى 40 سنة (أ)، وبداية الضمور وتوسع التجاويف من 40 إلى 60 سنة (ب)، والضمور واضح بعد 80 سنة (ج)، وبالغ في مرض الذهان (د).
(3) الغدد الصماء: تقل استجابة المستقبلات الخلوية للهورمونات، وينقص هورمون النمو Growth hormone عادة بعد حوالي 21 سنة، وبالمثل ينقص الهورمون منظم النوم Melatonin فتقل فترات النوم وهو عادة يزيد إفرازه ليلاً ويبدأ في النقص مع بزوغ الفجر، ويزيد إفراز الهورمون منظم الكالسيوم Parathyroid hormone ليحافظ عليه باستجلاب المزيد من العظام ومنع فقده في الكلية، ويزيد إفراز الهورمون مثبط إدرار الكلية Anti-diuretic hormone, وفي الإناث يقل إفراز هورمون الأنوثة Estrogen من المبيض عند انقطاع الحيض، ويحاول الجسم الحفاظ على التوازن بزيادة إفراز الهورمونات المحرضة للمبيض من الغدة النخامية في الدماغ، وربما تصل مستويات تلك المحرضات عند سن الستين حوالي أربعة أمثالها عند سن الخصوبة، ويزداد معها الهورمون المحرض للثدي لإفراز اللبن Prolactin.
(4) جهاز المناعة: يتأثر جهاز المناعة Immune system فتقل القدرة على مقاومة الأمراض، وقد ينجو ابن العشرين سنة من التهاب رئوي Pneumonia بينما قد لا ينجو ابن الستين، وتزداد نسبة الإصابة بالعدوى والسرطان، ومن عوارض اضطراب جهاز المناعة مهاجمة أنسجة الجسم حيث يعتبرها غريبة لعدم قدرته على تمييزها فتنشأ مجموعة أمراض فقد التمييز المناعي للذات Auto، immune diseases فيهاجم مثلاً خلايا البنكرياس المنتجة للأنسولين المتعلق بتنظيم العمليات المختصة بالسكر مما ينتج عنه مرض البول السكري Diabetes Mellitus
(5) الجهاز الدوري: يزداد معدل الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وهي السبب الأهم للوفيات بعد الخامسة والستين، ومن التغيرات تلف واندثار بعض الخلايا العضلية للقلب وتراكم الدهون والنسيج الليفي، وقد لوحظ في الإنسان وعدد من الأحياء تراكم حبيبات دهنية بروتينية Lipofuscin في الألياف العضلية للقلب وكذلك في النسيج العصبي كلما تقدم العمر ولذا سميت بصبغ العمر Age pigment, وتبدأ ملاحظتها بصعوبة في الإنسان عند سن العشرين ثم يتزايد عددها داخل الليفة العضلية للقلب لدرجة أنها تحتل حوالي 5 ــ 10% منها عند سن الثمانين، وتقل كفاءة القلب في ضخ الدم عند الهرم حيث تنقص كمية الدم المدفوعة عند سن التسعين مقارنة بابن العشرين، وتقل سرعة الانقباض والسبب قلة فاعلية بعض الإنزيمات الخلوية المختصة بإنتاج الطاقة، علمًا بأنه إذا لم يتعرض القلب لضغوط وإجهاد فقد لا يُدرك أثر تلك التغيرات، وتزداد نسبة الإصابة بمرض تصلب الشرايين Arteriosclerosis حيث تفقد مرونتها وتزداد قسوتها وسماكة جدرانها ومحتواها من النسيج الضام، ولذا فقد يرتفع ضغط الدم وغالبًا ما تكون الزيادة في الحد الأعلى الانقباضي أكثر من الحد الأدنى، الانبساطي وقد تحدث ترسبات على الجدران من نسيج ليفي بالإضافة إلى الكولسترول والكالسيوم مما قد يعيق مرور الدم ويؤدي إلى الاختناقات وحدوث الجلطات وتلف أنسجة حيوية مما قد يقضي على المصاب.
(6) العظام: يتناقص كالسيوم العظام بالتدريج وهو المادة التي تكسب العظام صلابتها ولذا تزداد هشاشتها ويسهل تعرضها للكسر بأقل الصدمات، ويبدأ تناقص الكالسيوم عادة قبيل الأربعين، وتتأثر الإناث أكثر من الذكور خاصة بعد انقطاع الحيض، ويصبح التئام الكسور بطيئًا، وتزداد الشكوى من آلام أسفل الظهر، ويرى البعض أن النقص الزائد للكالسيوم مقدمة لمرض وهن العظام Osteoporosis, وباستعمال الأشعة السينية وجد أن حوالي 40 ـ 50% من حالات الشيخوخة مصابون بتغيرات وهن العظام في الأقدام أكثر من الأيدي، وتنقص مادة العظام كذلك، وتقل مرونة المفاصل نتيجة لإصابة الغضاريف، ويزداد معدل الإصابة بالتهابات المفاصل Arthritis, ونتيجة للتغيرات في نسيج العظام قد يقل سُمك الفقرات فيقل طول الإنسان، وقد يصاب الجسم بتقوس الظهر Kyphosis نتيجة لإصابة الفقرات والضعف العام.
تجاعيد الوجه في الأعمار المختلفة
في داخل نواة طل خلية يوجد سجل بالخصائص الجسدية
وعداد للأجل يفسح المجال لعوامل الهدم عند الشيخوخة
(7) العضلات: تزداد نسبة كتلة النسيج الدهني والليفي كلما تقدم العمر وتقل نسبة كتلة النسيج العضلي خاصة مع قلة الحركة والتمرين، وتبلغ العضلات أوج قوتها عند 20 ـ 25 سنة وتستمر إلى سن 35 ـ 40 ثم تبدأ في الضعف تدريجيٌّا ويتناقص عدد الوصلات العصبية العضلية، وتصل العضلات عند سن 65 إلى حوالي 75% من قوتها في العشرينيات، وغالبًا ما يعتزل الرياضيون قبل بلوغ الأربعين.
(8) الجهاز التنفسي: تقل الكفاءة Vital capacity حوالي 40% عند 80 بالنسبة لسن 20، وتقدر الكفاءة بقياس أكبر زفير بعد أقصى شهيق.
(9) الجهاز الهضمي: ينقص إفراز الهورمونات في الجهاز الهضمي وينقص إفراز حامض المعدة كما ينقص امتصاص الدهون خاصة، وتزداد نسبة المعاناة من الإمساك نتيجة قلة النشاط وقلة المواد الليفية في الطعام وربما أيضًا لتساقط الأسنان وما يصاحبه من صعوبة المضغ.
(10) الجهاز البولي: تقل كفاءة الإنزيمات الخلوية في الكلية وتفقد بعض الوحدات الكلوية Nephrones ومن ثم تقل كفاءة الكلية.
(11) الجهاز التناسلي: بينما يقل هورمون الأنوثة كثيرًا في الإناث عقب انقطاع الحيض Menopause يقل هورمون الذكورة في الذكور ببطء في فترة ممتدة من حوالي سن الخمسين إلى التسعين، ولذا لا يوجد غالبًا عند الذكر ما يسمى بسن اليأس Climacteric وذلك نتيجة لحفاظه على الخصوبة، ولكن نشاطه يضعف تدريجيٌّا وتكثر الشكوى من العِنَّة Impotence, وقد وجد أن النشاط الجنسي في سن العشرين أكبر بحوالي أربع مرات مقارنة بسن الستين، وبينما لا تملك الأنثى فائض خصوبة ورصيدها لا يتجاوز يومًا في كل دورة شهرية هو يوم التبويض الذي ينقطع بانقطاع الحيض فإن خصوبة الذكر ممتدة وفائضها كبير، فمعدل النشاط المثمر لابن الستين مثلاً قد يصل إلى أربع مرات شهريٌّا.
(12) الجلد: لوحظ أن أكثر من ثلث المتجاوزين سن الخامسة والستين يعانون من مشكلات جلدية، مثل الإصابة بالجفاف والالتهابات والفطريات والأورام، وتزداد قابلية الجلد للتأثر بأشعة الشمس المباشرة، ونتيجة للتغيرات في الأنسجة الضامة في الجلد تظهر التجعدات Wrinkles, وقد تظهر بقع داكنة في المناطق المعرضة لأشعة الشمس تسمى بقع الشيخوخة Senile Keratosis وهي تنتج عن تسارع في نشاط الخلايا المنتجة للطبقة القرنية، وفي بعض النسوة قد يظهر تشعر المناطق الذكرية Hirsutism كالشارب والذقن، وتتوقف تدريجيٌّا وظيفة الخلايا الملونة للشعر Melanocytes قبل أن تتوقف بسنوات وظيفة خلايا البصيلات المسؤولة عن إنتاج الشعر Hair follicles, ولذا يتغير لون الشعر ويصبح أقل سمكًا وغزارة قبل سقوطه نهائيٌّا في بعض المناطق، وينقص نشاط الغدد العرقية والغدد الدهنية المجاورة للشعر، ويصبح الجلد رقيقًا وجافٌّا وتقل مرونته، وتحتاج الجروح إلى وقت أطول لكي تلتئم.
(13) تغيرات في الأنسجة والخلايا والعمليات الحيوية: تحدث تغيرات على مستوى الخلايا والأنسجة، فيقل إنتاج المواد الفعالة وبعض الإنزيمات داخل الخلايا لذلك قد تصبح أقل فاعلية أو تقل الاستجابة لها، وقد تتراكم بعض المواد المتحللة الغريبة داخل الخلايا وفي الأنسجة، ومنها مادة بروتينية متحللة Amyloid substance تنتج غالبًا عن إصابة جهاز المناعة بفقدان قدرة التمييز ومهاجمته لخلايا الجسم، وفي النسيج الضام توجد فتيلات مجهرية رابطة Collagen تتشعب مع مرور الزمن وتزداد تفرعاتها الجانبية فتصبح أكثر قسوة، وتتكسر الفتيلات المرنة Elastin فيفقد النسيج مرونته بالتدريج مثلما يحدث في جدران الأوعية الدموية حالة الإصابة بتصلب الشرايين، وفي النصف الأول من العمر يكون معدل عمليات البناء Anabolism أعلى، أما في النصف الثاني فيقل معدل نشاط العمليات الحيوية Metabolism ويكون معدل الهدم Catabolism أعلى، كما تتجه القدرات البدنية والعقلية في النصف الأول من العمر نحو الزيادة بينما تتجه في النصف الثاني نحو التدهور والنقص.
(ثالثًا) الأسباب:
يرى أكثر العلماء أن الشيخوخة ظاهرة في غاية التنظيم وترجع أساسًا إلى برنامج وراثي موحد لكل نوع من الأحياء تنفذه المورثات (الجينات Genes) ـ ومن الجائز وجود عوامل داخلية أو بيئية تدفع المورثات لإحداث التغيير ـ وقد تقوم بعض العوامل بتعجيل ظهور العوارض كالأمراض المزمنة مثل البول السكري أو ارتفاع ضغط الدم، ويرى البعض أن الشيخوخة حصيلة عوامل تخريبية تصيب الجسم مع الزمن كالإشعاعات ووقوع الطفرات Mutations وتراكم المواد المؤكسدة Oxidizing agents الناتجة عن الطعام، ويرى آخرون أنها نتيجة لاستهلاك الأعضاء مثلما تبلى وتتمزق الملابس بالاستخدام Wear & Tear, وتشارك الغدة النخامية ـ الواقعة تحت سيطرة منطقة تحت المهاد Hypothalamus في المخ ـ بإنقاص إفراز هورمون النمو والهورمونات الجنسية، وأما التغيرات الإنزيمية والمناعية والترسبات داخل الخلايا فالأغلب أنها نتيجة وليست سببًا.
وتميل الدراسات الإحصائية إلى تأييد الجانب الوراثي كسبب رئيس للشيخوخة، حيث وجد أن التوائم المتماثلة ذوي البرنامج الوراثي الموحد تميل للتماثل كذلك في طول العمر، ويميل أبناء الوالدين طويلي العمر للعيش عمرًا أطول من أبناء الوالدين ذوي العمر الأقصر، وكذلك يتميز كل نوع من الكائنات الحية بحد مقرر ثابت لطول الأجل Longevity أو مدى الحياة Life span وفق برنامج وراثي موحد، ويصل عمر بعض الفراشات يومًا، وبعض الديدان أسبوعين، وتبلغ ذبابة الفاكهة 30 ـ 40 يومًا، وتعيش بعض الفئران عامين، ويعيش الأرنب حوالي اثنتي عشرة سنة، والقط عشرين، ويزيد الكلب قليلاً عن الثلاثين، وقد يصل عمر الخفاش إلى حوالي خمسين سنة، ويبلغ الفيل دون الستين، ونادرًا ما يتجاوز عمر الإنسان مئة سنة، وأما بعض السلاحف فتعيش مئات بينما تعيش بعض الأشجار المعمرة آلاف السنين.
مرض الشيخوخة البكر حيث يظهر ابن الخمس سنوات
كما لو كان بن الستين
صورة بالصبغة للفتائل الوراثية (الكروموزومات)
وعلى طرفي كل منها عداد الأجل باللون الأحمر
وهناك مرض عجيب شبيه المظاهر يدعى الشيخوخة المبكرة Progeria, ويحدث النوع النادر منه في الطفولة ويظهر فيه ابن الخمس سنوات كما لو كان ابن الستين، ومع قصر القامة يشيب شعر رأسه ويتساقط مبكرًا وتظهر الأوعية الدموية غليظة تحت جلد رقيق للرأس، ويصاب بحدود سن العاشرة بأمراض القلب والأوعية الدموية ويموت غالبًا عند سن الثالثة عشرة ولا يبلغ الثلاثين، ويوجد نوع آخر غير نادر يظهر عند البلوغ وفيه يشيب الرأس ويسقط الشعر سريعًا وتسقط الأسنان، وتظهر أمراض القلب والأوعية الدموية ويظهر تنخر العظم والتهاب المفاصل ويضعف السمع والبصر وتكثر الإصابة بمرض البول السكري والسرطان ويموت المصاب غالبًا قبل الخمسين، وقد وصفت الحالة للمرة الأولى عام 1886م، ولم يسجل من النوع النادر حتى الآن سوى حوالي مئة حالة فقط، وهي مطمع عند المتخصصين وموئل أمل بأن تقود لكشف سبب الشيخوخة الطبيعية، وقد اكتشفت الدراسات الوراثية بالفعل تشابُهًا بين الحالتين مما يؤيد ترجيح الجانب الوراثي كسبب رئيس للشيخوخة.
رابعًا: الرعاية الطبية والاجتماعية
اكتشف هورمون النمو rowth hormone عام 1920م، واستخلص عام 1956م، واستخدم للمرة الأولى في علاج طفل متأخر النمو عام 1958م، ومرشح حاليٌّا كعلاج تعويضي في الشيخوخة، ومن الأدوية الأخرى المرشحة للاستخدام مضادات الأكسدة Antioxidants وتوجد طبيعيٌّا في بعض الأغذية مثل الفواكه والخضروات الطازجة وزيت الزيتون، وتفيد بعض التقارير بأنها تحمي من الإصابة بالسرطان، وقد يستخدم الهورمون الأنثوي في سن اليأس لتلطيف الأعراض، ويستخدم الهورمون الذكري كمنشط لعلاج العنة ـ ولكن العلاج بالهورمونات عمومًا له محاذيره ـ وقد تستخدم الفيتامينات والمعادن الأساسية خاصة عند النقص الغذائي، ويستخدم الكالسيوم خاصة مع آلام الظهر والكسور، والالتزام بالنوم ليلاً واليقظة في وقت مبكر والحفاظ على نوم فترة الظهيرة قد يساعد على التخلص من اضطراب النوم، ولا ينصح بالرياضة العنيفة وإنما برياضة معتدلة كالتنزه، وينصح بالأطعمة قليلة الدسم قليلة الكوليسترول وتجنب الغضب والتدخين والخمور والإسراف في الطعام.
وقد وجد أن حوالي 90% من حالات الشيخوخة طبيعية بلا مضاعفات Complications وحوالي 10% فقط من الحالات تصاحبها الأمراض، وبعضها يمكن علاجه أو توقِّيه ولكن عوارض الشيخوخة لا يمكن التخلص منها أو وقفها، والقدرات إذا فقدت لا يمكن استردادها، ولا يوجد سن موحد لابتداء الشيخوخة وإن اعتبر العمر 60 أو 65 سنة مناسبًا للإعفاء من الخدمة في الوظائف الحكومية؛ ولكن الفروق الفردية واسعة وقد تمتد القدرة المهنية لسنوات بعد الخامسة والستين، ولذا يرى البعض تقييم الحالة الصحية والمهنية لكل فرد على حدة حفاظًا على الخبرات، وأما بيوت رعاية كبار السن فليست الحل الأمثل لأنها لا تعوض روابط البيئة الأسرية وعلاقات القرابة التي اشتهرت بها المجتمعات منذ القدم.
(خامسًا) كشف جديد يؤيد تقدير الأجل:
كان الاعتقاد السائد أن الخلايا الحية المستنبتة معمليٌّا قادرة على الانقسام بلا حدود، ولكن تبين مؤخرًا أن قدرتها على الانقسام محدودة، أي أنه بعد عدد محدود من الانقسامات تشيخ المزرعة الخلوية وتموت، ومن هنا ظهر الافتراض بوجود آلية داخل الخلية معنية بالتحكم في العمر عن طريق توقيف الانقسام وإفساح المجال لعمليات الهدم لتميت الخلية، ومن ثم عكف الباحثون على اكتشاف هذه الآلية المفترضة، ومنذ سنوات يسيرة اكتشف أن الجزء الأخير Telomere عند نهايتي كل فتيلة وراثية (كروموزوم Chromosome) ينقص طوله مع كل انقسام وتضاعف منظومة صانع البروتين (الحمض النووي DNA)، ووجد أنه يعمل كساعة أو عداد يحسب عدد الانقسامات ويقوم كذلك عند الانقسام بحفظ المادة الوراثية من التبعثر والاندماج الخاطئ، ويسمى الغطاء الطرفي End cap أو عداد التضاعف Replicoـmeter, ويمكن أن يسمى أيضًا عداد الأجل Longevity-meter لأن طوله إذا وصل إلى حد حرج يقف الانقسام وتموت الخلية.
لا ينقص طول الغطاء الطرفي في الخلايا الجينية الأم والسرطان لأن الإنزيم الباني يعوض ما ينقص منه (أ)، وكلما تقدم العمر ينقص طوله في الخلايا الجسدية لغياب الإنزيم (ب)، وفي الشيخوخة يكون بالغ القصر (ج).
يتفق وصف القرآن الكريم للقدرات في مختلف مراحل العمر مع المعطيات العلمية الحديثة
وتتبدى الشيخوخة في وقت محدد نتيجة لآليات خلوية معقدة تعمل متزامنة في تناسق عجيب، والخلية الحية محدودة الأجل خاصة في الأنسجة سريعة التجدد، وتقف وظائفها عند حد معين وتذبل وتموت، وفي بداية الستينيات من القرن الماضي أطلق ويشمان Weismann وكاريل Carrel على توقف تلك الوظائف تعبير شيخوخة الخلية Cell senescence, ولم تدرك العلاقة بين شيخوخة الخلية وتناقص طول الغطاء الطرفي إلا مؤخرًا خاصة بعد اكتشاف جريدر Greider وبلاكبورن Blackburn الإنزيم الباني للغطاء الطرفي Telomerase عام 1985م، وكان أول من ربط بين شيخوخة الخلية وفقد جزء من طول الغطاء الطرفي هوارد كوك Howard Cooke عام 1986م، فقد وجد أن الخلايا المستنبتة المأخوذة من صغار السن ذات أغطية طرفية أطول وأن مرات انقسامها أكبر من الخلايا المأخوذة من كبار السن، وفي عام 1989م اكتشف مورين Morin أن نشاط الإنزيم الباني زائد في الخلايا السرطانية، وهو ما أيد فرضية أولوفنيكوف Olovnikov سابقًا عام 1971م، من وجوب وجود آلية تخرج انقسام الخلايا السرطانية عن السيطرة، وزيادة الإنزيم الباني في الخلايا السرطانية دون الخلايا الطبيعية تعوض ما يفقد من طول الغطاء الطرفي بالانقسام فلا يتناقص طوله وبالتالي تنقسم الخلايا السرطانية بلا توقف، وزيادة الإنزيم في الخلايا السرطانية قد أيدتها الأبحاث المتوالية منذ عام 1994م إلى اليوم، وهذا معناه إمكانية القضاء على السرطان بوقف نشاط الإنزيم الباني عن طريق عقار مضاد يوقف عمله أو عمل المورث (الجين) المولد له، وإمكانية تأخير الشيخوخة بتعاطيه كعقار أو التداوي بالمورث المولد له.
واللافت للنظر أن الأغطية الطرفية للفتائل الوراثية قد وجدت قصيرة ابتداء في حالة الإصابة بمرض الشيخوخة المبكر Progeria, بينما وجدت طويلة ابتداء في حالة الخلايا الجنينية الأم Stem cells التي تتولد عنها لاحقًا كافة أنسجة الجسم، وهذا يعطي الأمل للباحثين في استخدامها في عمليات استبدال الأنسجة التالفة كما في حالات تلف خلايا البنكرياس في مرض البول السكري وتلف خلايا المخ في مرض الذهان.
وأحدث الاكتشافات حتى الآن هو التعرف على زوج من الجينــات البشــرية مُهِمَّتُهمــا تثبيط إنتاج الإنزيم الباني والتمهيد للشـيخوخة، ومحاولة لاستخدام الإنزيم مؤشرًا Marker لاكتشاف السـرطان مبكرًا، وفي عام 1998م أعلن بودنار Bodnar عن نجاحه في تأجيل شــيخوخة مزرعة خلوية بشرية بمدها بالإنزيم الباني Telomerase, وفي العام الماضي (2001م) حاول شاي Shay فتح باب استخدام مثبطات الإنزيم الباني للغطاء الطرفي لوقف النشاط السرطاني.
البيان القرآني
في قوله تعالى:(وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُون) يس 68؛ يتضمن التعبير الإخبار بأسلوب معجز بليغ عن حالة عامة من التدهور والارتداد تتسع لتشمل كافة التغيرات الخفية للشيخوخة التي لم يعرف أحد عنها شيئًا عند التنزيل وكشفتها الدراسات العلمية حديثًا، والنص الكريم ورد ضمن منظومة من النصوص تعالج موضوع مراحل العمر عامة أو الشيخوخة خاصة في تكامل وائتلاف بلا اختلاف.
وفي قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير)(الروم54).