logo.png
أهمية التنوع الأحيائي النباتي في البيئة
طباعة




د. عبدالبديع حمزة زللي
أستاذ علم التلوث البيئي والتسمم البيئي بكلية العلوم
ورئيس وحدة البحوث البيئية والصحية- جامعة أم القرى ـ المدينة المنورة

  لقد خلق خالق هذا الكون جلَّت قدرته هذه الأرض، وأوجد فيها الإنسان، وأوجد فيها الكائنات الحيّة بمختلف أجناسها وأنواعها. فعالم النباتات يزخر بتنوع واسع من الأشجار الكبيرة الضخمة، والشجيرات الصغيرة والأعشاب المتنوعة، والكائنات الحيّة النباتية الدقيقة وعالم الحيوانات يشمل الحيوانات البرية والمائية والطائرة بمختلف أجناسها وأنواعها، وعالم الكائنات الحيّة الدقيقة يشمل الكائنات المجهرية التي لا يمكن رؤيتها إلاّ بواسطة المجاهر أي الميكروسكوبات ومنها البكتريا والطحالب والفطريات والفيروسات وغيره.

ويتداخل عمل جميع هذه الكائنات الحيّة فتعمل مع بعضها لتكوَّنَ بذلك نسيجاً إحيائياً واحداً في البيئة تشدُّ مكوناته التي يتركب منها بعضها بعضاً، فإذا غاب أو نقص نوع أو جنس من هذه الكائنات، أثر ذلك الغياب أو النقص في قوة وثبات هذا النسيج الأحيائي.

وتتميز المناطق الجغرافية المختلفة على هذه الأرض عن بعضها البعض بوجود أجناس وأنواع محددة من النباتات والحيوانات والكائنات الحيّة الدقيقة، فكل منطقة تتميز عن المنطقة الأخرى بكائناتها الخاصة بها.


ويمكن أن نعرف مصطلح التنوع الأحيائي في البيئة في الآتي:

هو وجود مدى واسع من الأنواع المختلفة في الجنس والنوع من الكائنات الحية، الموجودة أصلاً بصورة طبيعية في بيئة واحدة، لتضم بذلك هذه البيئة النباتات بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها، وتضم أيضاً الكائنات الحيّة الحيوانية الفقارية كالحيوانات الثديية والطيور، والكائنات الحيّة اللافقارية كالديدان والحشرات، وتضم كذلك الكائنات الحيّة الدقيقة المجهرية كالبكتريا والفطريات والطحالب وغيره.


هذا التنوع الأحيائي له دور مهم ووظيفة عظيمة، ولم يقف الإنسان على حقيقة أهمية ودور التنوع الأحيائي في البيئة بشكل دقيق إلا في السنوات الأخيرة من هذا القرن، خاصة بعدما عمل الإنسان بنشاطاته المختلفة على انقراض بعض أنواع الكائنات الحية النباتية والحيوانية، فحتى سنوات قليلة مضت، كان الانطباع لدى عامة الناس على التنوع الأحيائي أو التنوع الحيوي يقتصر على الناحية الجمالية في الطبيعة، غير أن التوسع في الدراسات البيئية، والتعمق في التخصص الدقيق المتعلق بعلاقات أنواع الكائنات الحيّة بعضها ببعض، قد أظهر الأهمية الكبيرة والدور العظيم الذي يقوم به التنوع الأحيائي في البيئة وحياة الإنسان، مما جعل اعتبار التنوع الحيوي كعنصر مرادف لجمال الطبيعة بعيداً جداً عن موقعه الأول، وجعله في آخر الاعتبارات.


لقد دلت نتائج الدراسات والأبحاث البيئية أن انقراض نوع واحد من الأنواع الحيّة التي توجد في أي منطقة من المناطق على الكرة الأرضية يؤدي إلى تفكيك مكونات النسيج الأحيائي البيئي وخلخلته وإلقائه على حافة المجهول، ولا يقتصر أمر هذا الضرر على المنطقة التي يحدث فيها خلل التوازن البيئي فقط، وإنما ينتقل هذا الضرر إلى المناطق الأخرى المجاورة.


إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد خلق كل شيء في أرجاء الكون بقدر موزون، فكل شيء أوجده الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض أو أوجده في الكون كله يخضع لعملية التوازن الطبيعي، وله وظيفة ومهمة يؤديها ويقوم بها في البيئة، ومن أجل أن تسير أمور الحياة بشكلٍ متناسق موزون، فقد جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا الوجود الآلية الطبيعية الذاتية التي تقوم بعملية التوازن الطبيعي، بحيث لا يطغى مخلوق على مخلوق آخر إلاّ بما قدره الله سبحانه وتعالى. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بوضوح في آيات قرآنية عديدة.


ومن هنا نرى أن جميع الكائنات الحيّة النباتية والحيوانية والكائنات الحيّة الدقيقة بمختلف أشكالها وأنواعها وأحجامها لها دور مهم عظيم في البيئة، إذ إنها تتفاعل مع بعضها البعض تفاعلاً معقداً دقيقاً موزوناً، غير أن الإنسان ربما تدخل بشكل مباشر عن طريق نشاطاته المختلفة، وعمل على تغيير التوازن الطبيعي الذي أوجده الله ـ سبحانه وتعالى ـ في البيئة من أجل صالحه، وجميع الكائنات الحيوانية التي أوجدها الله في الأرض إنما هي وجدت من أجل المنفعة والمصلحة، وكلنا نعلم الدور الذي تقوم به الحيوانات، فهي على سبيل المثال إضافة إلى كونها من مصادر الغذاء للإنسان بشكل مباشر وغير مباشر، فهي أيضاً تلعب دوراً مهماً في النظام البيئي، وتساهم في المحافظة على بقاء مكونات البيئة الحيّة. لذا فإن عمل الإنسان بقصدٍ أو من غير قصد على الإخلال بهذا التوازن الطبيعي، وتسبب في انقراض أو نقص أو تزايد أعداد كائن حي ما يعيش في بيئة معينة، فهو بذلك يكون قد أثر على وجود الكائنات الحية الأخرى في هذه المنطقة، وتتأثر بذلك حياة الإنسان بشكلٍ مباشر وغير مباشر.


وكي نقف على حقيقة هذا الموضوع، نأخذ مثالاً يوضح لنا هذا الأمر، فمثلاً ينتفع الإنسان والبيئة من طائر الغراب متى كانت أعداد هذا الطائر ضمن الحدود الطبيعية، فهو يخلصنا ويخلص الفلاحين من الحشرات الضارة التي تضر بالمحاصيل الزراعية، لأنه يتغذى عليها، كما يخلص البيئة من الجيف والحيوانات النافقة، ويدخل الغراب أيضاً في عملية التوازن البيئي الطبيعي حتى لا يطغى كائن على آخر، فهو يأكل بيض الطيور الأخرى وصغار الطيور ليحافظ بذلك على عددها ليكون ضمن الحدود الطبيعية في الظروف الطبيعية، ومهمة دور الغراب الذي يؤديه لنا في البيئة هو مثلٌ ينطبق على كل كائن حي آخر موجود في البيئة، فهو عنصر من عناصر التنوع الأحيائي في البيئة.


ولنضرب مثالاً آخر يوضح لنا كيف يؤثر الخلل بالتنوع الأحيائي على البيئة وحياة الإنسان، فكلنا نعرف الأرنب، ذلك الحيوان الصغير الجميل الذي نربيه في مزارعنا. هناك أنواع منه برية تعيش في بعض الغابات، ومعروف للجميع أن هذه الأرانب تتغذى على الأعشاب والنباتات الصغيرة وجذورها، وتتكاثر هذه الحيوانات بسرعة، وبالرغم من ذلك تظل أعدادها في المدى الطبيعي الذي لا يؤثر في البيئة ويفسدها، لأن هذه الأعداد تخضع لعوامل التوازن البيئي الطبيعي الذي أوجده الله ـ سبحانه وتعالى ـ في البيئة، فوجود الحيوانات المفترسة التي تفترسها وتتغذى عليها، يحول دون تزايد أعداد الأرانب في البيئة إلى أعداد كبيرة تأكل الأخضر واليابس، وغياب أو نقص الحيوانات المفترسة يؤدي إلى تكاثر الأرانب في الغابات فتقضي على الكساء الخضري، فتتأثر حياة جميع الكائنات الحيّة الحيوانية والنباتية الدقيقة، وتختفي أو يقل وجودها في هذه الغابات، ويخسر بذلك الإنسان اقتصادياً، حيث يتعرض لخسارات مادية عظيمة، ويفقد عناصر كثيرة من العناصر التي يستخدمها في حياته اليومية لغذائه وكسائه وسكنه، ومستلزمات مصانعه.


ولا يقتصر الضرر والأذى الذي يواجهه الإنسان من التأثير على التنوع الأحيائي المتعلّق بعالم الحيوانات وحسب، وإنما يشمل ذلك أيضاً التأثير على التنوع الأحيائي في عالم النباتات، فعلى سبيل المثال كلنا نعرف أن الغابات لا تحتوي على جنس واحد أو نوع واحد من النباتات، وإنما تحتوي على أجناس وأنواع عديدة جداً من النباتات المختلفة والمتنوعة، وهذا النظام البديع المكوَّن من هذه النباتات المتنوعة له دور عجيب في حماية الغابات.


ومن هنا يبزر لنا شيء من أهمية وجود أنواع مختلفة ومتنوعة من الكائنات الحيّة التي خلقها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في بيئاتنا الطبيعية، إذ سبق أن ذكرنا أن إنقاذ التنوع الأحيائي من الاضطراب والخلل، هو في الأصل حماية لحياة الإنسان، فانقراض نوع واحد من الكائنات الحيّة في بيئة ما، قد يعني خراباً ودماراً يحصل في البيئة ذاتها وفيما جاورها من بيئات أخرى، فكل هذه الكائنات ترتبط بسلسلة من التفاعلات المتصلة، ومتى انقطع جزء من السلسلة، سبَّبَ ذلك خللٌ في سلسلة التفاعلات، ونتج عن ذلك خسارات عالمية اقتصادية وصناعية وجمالية.

إذاً فتنوع النباتات في البيئة وفي المزارع والبساتين، يحقق فوائد مختلفة. ومن أهم هذه الفوائد ما يلي:

 

الفائدة الأولى: استمرارية وديمومة النفع والعطاء

من المعروف أن لكل نوع من النباتات موسماً ووقتاً محدداً يثمر فيه، وينضج ثمره في هذا الموسم ليستفيد منه البشر وجميع الكائنات الحيّة، لذا فإن اختلاف أنواع النباتات يعمل على استمرار العطاء طوال العام، فنوع ينتج ثماره في الصيف، ونوع آخر ينتج ثماره في الشتاء، ونوع آخر كذلك ينتج في الربيع وهكذا.


ونستشف من آيات القرآن الكريم ما يدلنا على أهمية تنوع الأشجار والنباتات في المزارع، إذ يقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف آية 32 وآية 33: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا).


يفسر ابن كثير رحمه الله قوله تعالى: }وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا| أن المولى سبحانه وتعالى قد ضرب للكفار والمؤمنين مثلاً برجلين، جعل الله لأحدهما جنتين أي بستانين من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتها وفي خلالهما الزرع وكل من الأشجار والزروع مثمر في غاية الجودة.


ويذكر الرازي رحمه الله أن المقصود منه في هذه الآية عدة أمور: أحدها أن تكون أرض الجنتين جامعة للأقوات والفواكه، وثانيها أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف، ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها بعضاً، وثالثها أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى، وهي ثمرة أخرى، فكانت منافعها دارة متواصلة.


الفائدة الثانية:

 تنوع النباتات يفيد في حماية الزرع من الآفات:

إن النقص في الثمار وقله محاصيل النباتات بعد انعقاد ثمرها، لا يكون غالباً إلا عندما تتعرض هذه النباتات لعاملين هما:

* إصابة النباتات بالآفات والأمراض

* نقص العناصر الغذائية


وبوجود أنواع مختلفة ومتنوعة من النباتات في البيئة الواحدة، فإن نباتات هذه البيئة لا تتعرض في الغالب إلى هذين العاملين، وسبق أن ذكرنا أن حصر البيئة أو الحقل الزراعي على نوع واحد من النباتات يساعد في نشر الأمراض والأوبئة النباتية التي تعمل على نقص المحصول أو تقضي على النباتات تماماً، وقد أدت زراعة نوع واحد من المحاصيل على نطاق واسع في مساحات شاسعة في عدد من دول العالم إلى دمار محاصيلهم، إذ وُجِِدَ أن الجينات الممرضة تستطيع أن تقضي على المحصول بأكمله. وقد حدث ذلك في موجة الوبائيات لمحصول القمح الذي زُرع في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة الستينيات من القرن الماضي. ومن ثم فإن زراعة أكثر من محصول واحد، يعتبر حماية للمحاصيل ضد الوبائيات.


وعلى نطاق الغابات، فقد وُجد أن نباتات الغابات الطبيعية تفرز روائح منعشة ومواد مختلفة تختلف باختلاف النباتات تقوم بتثبيط نشاط ونمو البكتريا والفيروسات، فتعمل هذه الإفرازات على تخفيض عدد الميكروبات في هواء الغابة، ولذا فإن أعداد البكتريا في هواء الغابة يقل بقدر يتراوح بين 200 إلى 250 ضعفاً عن أعدادها في هواء المدن(1)، بينما وُجِدَ أن الغابات الصناعية التي زُرع فيها نوع واحد من الأشجار، وخلت من التنوع الأحيائي الطبيعي، وافتقرت تماماً للكائنات الحية النباتية والحيوانية ولم تعد تستوطنها إلا أنواع محددة من الطيور والحيوانات التي يمكنها أن تكتفي بهذا النوع من النباتات كغذاء رئيسي لها، قد أصبحت معرضة للآفات والأمراض نتيجة لقلة محتوى الهواء من المواد المؤثرة في نمو الميكروبات والتي تفرزها النباتات المتنوعة، ونتيجة أيضاً لتكاثر وانتشار الحشرات المسببة لأمراض الشجر وموتها، ولأن عناصر التوازن الطبيعي قد اختفت، لاختفاء الطيور والحيوانات التي تتغذى على هذه الحشرات.


ومن هنا نرى أنه إضافة إلى الفائدة التي تجنيها البيئة من تنوع النباتات في الغابات والحقول الزراعية، والمتمثلة في تنوع الثمار واستمرارية العطاء والنفع، فإن الله سبحانه وتعالى المنعم ذو الفضل العظيم قد جعل هذا التنوع النباتي يحمي النباتات من الآفات والحشرات الممرضة، فيكثر العطاء ولا يتعرض للنقص والقلة.


لو تأملنا في قوله تعالى: (كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا) لوجدنا أن الآية تشير إلى أن ثمار أشجار النخيل والأعناب والمزروعات المختلفة التي كانت تثمر وتعطي أُكُلها، لم تُنقص من ريعها ومحصولها شيئاً. وقد فسر ابن كثير والرازي رحمهما الله قوله سبحانه:(وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا) أي لم تنقص، والظلم النقصان، يقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني.


ومن هنا نرى أن هذه النباتات المتنوعة المنتجة والمغدقة بعطائها الجيد، لم تتعرض للعوامل التي تؤدي إلى نقص الثمار وقلة المحصول الزراعي، فتحققت الحماية بإذن الله لجميع النباتات التي كانت تنمو في المزرعتين، بتنوع النباتات.

الفائدة الثالثة:

 العمل على زيادة خصوبة التربة

لوحِظَ أن تربة الغابات الطبيعية ظلت مئات بل آلاف السنين خصبة غنية بالأملاح المعدنية والمواد العضوية، مغدقة بإنتاج ضخم من النباتات والأشجار الضخمة العملاقة، حيث أنتجت بعض الغابات أنواعاً من الأشجار يصل طولها إلى أكثر من 110 أمتار أي كعمارة طولها 37 طابقاً كأشجار الخشب الأحمر، وأنواعاً أخرى من الأشجار يصل سمك جذعها إلى أكثر من 12 متراً كأشجار السرو البسيط، وأشجار أخرى مقاومة لجميع الظروف القاسية كأشجار الأمبو التي تتحمل الظروف القاسية.

إذ يمكنها مقاومة الجفاف ومقاومة الإصابة بالآفات الحشرية والعواصف الشديدة، ودرجات الحرارة العالية، ومقاومة أخشابها للحريق، والتي تتميز بميزة إعاقة قطعها أو نشرها(2)، ولوحظ أن تربة المزارع والحقول الزراعية تفقد خصوبتها وتضعف مع مرور السنين والأعوام بالرغم من أن الإنسان يتولاها بالرعاية والعناية.
حيث دلت نتائج الدراسات والأبحاث أن استمرارية زراعة نوع واحد من النباتات يعمل على إضعاف التربة وتقليل خصوبتها، فعلى سبيل المثال وجد العلماء أن زراعة محصول واحد يستهلك الأملاح المعدنية والمواد العضوية الموجودة في التربة إذا زُرع في الحقل سنة بعد أخرى، ووُجِد أن زراعة أنواع مختلفة من المحاصيل في الحقل ووفق جدول منتظم يتيح فرصة تعويض معظم الأملاح المعدنية والمواد العضوية المستهلكة، كما يساعد في الحد من أمراض النباتات ودورة حياة الحشرات (3).


ومن المعروف في علم النبات أن جميع النباتات تحتاج إلى عنصر النتروجين الذي يكون على هيئة مركبات معينة، ولابد من وجوده في التربة، ونجد أن بعض النباتات تأخذ أملاح النتروجين من التربة ولا تستطيع أن تعوضها، بينما تستطيع نباتات أخرى أن تخرج هذه المركبات وتفرزها في التربة، لذا فإن تنوع النباتات في البيئة يُتيح للتربة فرصة حقنها بمركبات النتروجين، وذلك بواسطة النباتات والكائنات الحيّة الدقيقة التي تستطيع أن تستغل غاز النتروجين الموجود في الهواء الذي نتنفسه، وتحوله إلى المركبات الأساسية الضرورية لنمو وتكاثر النباتات. وهكذا نلمس شيئاً آخر من فوائد تنوع النباتات في البيئة.


الفائدة الرابعة: الحماية من الرياح والعواصف وتعرية التربة

يؤدي تنوع النباتات في البيئة فوائد أخرى، ومنها حماية النباتات بعضها بعضاً من العوامل الفيزيائية التي تتلف النباتات والزرع، ومن أهم عناصر الحماية المتعلقة بهذا الشأن ما يلي:


1 ـ حماية الزرع من الرياح والعواصف.

تعتبر النخيل والأشجار عموماً كمصدات طبيعية ضد الرياح العاتية والعواصف الشديدة خاصة في المناطق المكشوفة التي تسود فيها الرياح الشديدة، ومن أجل حماية الزرع والمحاصيل الزراعية والحصول على محصول وفير وغير منقوص، فقد دلت دراسات علم الهندسة البيئة، وعلم الزراعة، أنه لابد من زراعة الأشجار حول المزارع والبساتين لتكون كأحزمة خضراء واقية تحمى المحاصيل، وتُحَسِّن الجو المحيط بالنبات، بتخفيض سرعة الرياح والعمل على تلطيف درجة حرارتها (4)، وأنه ينبغي اختيار الأشجار والنباتات التي تتحمل ظروف الطقس المحلي، ففي البيئات التي يسود فيها ارتفاع درجات الحرارة وظروف الطقس الصحراوي تعتبر النخيل من الأشجار التي تتحمل هذه الظروف القاسية والتي تفيد الزرع والمحاصيل الزراعية عند استخدامها كأحزمة خضراء تحفُّ البساتين والمزارع في المناطق المكشوفة.


2 ـ تحمي التربة من التعرية وزحف الرمال عليها

تتعرض التربة الخصبة للجرف الطبيعي عن طريق عوامل عديدة ومنها جريان مياه الأمطار على سطح التربة، والرياح الشديدة، وزحف الكثبان الرملية. وتستخدم الأشجار في المحافظة على البيئة، فهي تساعد في المحافظة على التربة، وتمنع من تعرية التربة بواسطة الرياح، كما تعيق جذورها انجراف التربة في حالة سقوط الأمطار الغزيرة، وجريان المياه بشده على سطح الأرض. وقد ساعدت أنواع كثيرة من الأشجار على إيقاف انتشار الصحارى، والوقوف أمام زحف الكثبان الرملية، فحالت دون زحف الرمال المتحركة إلى المناطق الزراعية وإلى المدن، وذلك عن طريق زراعة الأشجار والنباتات المختلفة في حواف المناطق الزراعية والمدن المعرضة لزحف الكثبان الرملية على هيئة شريط أو أكثر لتكون كحزم أخضر.


لم يدرك الإنسان فائدة ودور الأحزمة الخضراء التي تحف المزارع والبساتين، ودورها في حماية الزرع والمحاصيل، وكيف تساهم في إعطاء محصول جيد بشكل واسع ودقيق، إلا في عصرنا الحديث، وذلك بعد أن توسعت علوم البيئة والزراعة، غير أن القرآن الكريم ومنذ أكثر من أربعة عشر قرناً قد أشار إلى هذه الحقيقة ودلَّ عليها قبل أن يقف علماء البيئة والزراعة على دور الأحزمة الخضراء، فقد بَيَّن لنا المتفضل المنعم الكريم ـ سبحانه وتعالى ـ أنه قد أنعم سبحانه على صاحب الجنتين، فحفَّ بستانيه اللتين احتوتا على الأعناب وأنواع المثمر بالنخيل فهو القائل سبحانه: (جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ). وقال الزجاج (5) رحمه الله أن معنى }وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ| أي جعلنا النخل مُطيفاً بهما، يقال: قد حفَّ القوم بزَيْدٍ إذا كانوا مُطيفين به، وقال الرازي رحمه الله أي وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين.


وقد اختفت الحكمة من جعل النخيل تحف البستانين عن كثير من الناس، فجاءت نتائج الدراسات والأبحاث لتكشف النقاب عن شيءٍ من جوانب هذه الحكمة، فعرف الناس فوائد تنوع النباتات في المزارع والغابات، وعرف الناس أيضاً فوائد الأحزمة الخضراء، الأمر الذي أدى إلى التوسع في استخدامها في هذا العصر، ليس لتحمي المزارع والبساتين وحسب، وإنما لتحمي المدن كذلك من زحف الرمال. وقد دلت التجارب المختلفة المتعلقة بحماية المدن والقرى من زحف الرمال المتحركة بواسطة وسائل وطرق مختلفة أن إقامة الأحزمة الخضراء والتشجير عموماً قد أثبت جدواه وفاعليته، وأن هذه الطريقة تتميز بفاعلية جيدة في وقف زحف الرمال على جميع الطرق الأخرى، وتطبيقها يعتبر الأيسر مقارنة بالطرق الأخرى، حيث ظهر من هذه التجارب أن الوسائل الأخرى لا تعتبر إلاَّ إجراءات مؤقتة تؤدي إلى تثبيت الكثبان الرملية المتحركة بشكل مؤقت، بحيث أن التشجير وزراعة الكثبان الرملية المتحركة بالنباتات الرملية Psammophytes التي تشمل الأشجار والشجيرات والأعشاب المتميزة بقدرتها على ملاءمة ظروف التربة الرملية والمناخ المتطرف وفقر التربة بالأملاح المعدنية والمركبات العضوية، والتي تتميز أيضاً بجذورها التي تنمو عميقاً إلى الطبقة الرطبة أو تنتشر على سطح الأرض، فتعمل بذلك على تماسك التربة.


وتعتبر المملكة العربية السعودية من الدول الرائدة في مكافحة زحف الكثبان الرملية حيث أقامت مشروعاً يعتبر من أهم مشاريع مكافحة الكثبان الرملية في الوطن العربي وهو مشروع مكافحة الكثبان الرملية في الأحساء، الذي هدف إلى وقف حركة الكثبان الرملية وتثبيتها واستصلاح الأراضي التي فقدت أو تدهورت تربتها.


3 ـ تحافظ على وجود الماء في التربة

من المعروف أن نوع وتركيب جذور النباتات، وعمق امتدادها في التربة يختلف باختلاف النباتات، فبعضها يمتد على سطح التربة، والبعض يمتد في عمق التربة لمسافة قصيرة، والبعض الآخر يغوص كثيراً في عمق التربة. وجميع الجذور النباتية تترك في التربة ما تفرزه من مواد كيميائية عضوية أو ما يبقى منها من جذيرات وجذور ميتة وبقايا عضوية مختلفة، فتتحلل وتتفكك بواسطة الكائنات الحيّة الدقيقة، فيعمل ذلك على إضافة المواد أو المركبات العضوية في التربة وهو ما يصطلح عليه علمياً بزيادة المحتوى العضوي. وللمركبات العضوية قدرة عالية جداً على امتصاص الماء والإمساك به، ولجذور النباتات وخاصة تلك التي تمتلك جذوراً ذات قدرة عالية أيضاً على تخزين الماء بكميات كبيرة. وبهذا تعمل على زيادة المحتوى العضوي في التربة وجذور النباتات على زيادة كفاءة التربة للحفاظ على الماء فيها والإمساك به، عند مستوى السطح وفي أعماق التربة التي تصل إليها الجذور.


لذا فإنه في حالة انقطاع الأمطار وانقطاع وصول الماء إلى النباتات، فإن النباتات المتنوعة تخدم بعضها بعضاً لتتحمل هذه الظروف القاسية، فتبقى النباتات حيّة زمناً أطول عند تعرضها لمثل هذه الظروف، ومن هنا فإن التنوع الأحيائي يسهم في المحافظة على استمرار الحياة في الغابات وفي البيئات الزراعية.


ومما تقدم يظهر لنا النفع والفائدة من جعل أشجار النخيل على حواف البساتين، فهي تقوم بحماية الزرع من الرياح والعواصف، وتحمي التربة من التعرية وزحف الرمال عليها، وتحافظ على وجود الماء في التربة.


الفائدة الخامسة: تنوع النباتات يوفر مأوى ومسكناً يُلائم تنوع الكائنات الحية:

إن تنوع النباتات في البيئة لا يخدم الإنسان وحسب، وإنما يخدم جميع الكائنات الحية التي أوجدها الله سبحانه وتعالى في البيئة، فالأنواع المختلفة من النباتات توفر قوتاً ومأوىً يتناسب مع تنوع الكائنات الحيّة، حشرية وحيوانية وطيوراً. وقد يظن البعض أن توفر القوت والمأوى للكائنات الحية المختلفة يعني تحقيق وجود الأسباب التي تضر بالأشجار والنباتات وتؤذي البيئة. وهذا الأمر يبتعد عن الصواب، فليست كل الكائنات الحية التي أوجدها خالق الكون جلت قدرته في البيئة ضارة ومؤذية، بل إن الغالبية العظمى منها لها فوائد عديدة لا حصر لها تفيد الإنسان وتفيد البيئة.


الفائدة السادسة:  إعاقة انتشار الحريق

أما الفائدة السادسة من تنوع النباتات في البيئة، فهي إعاقة انتشار الحريق في حالة اندلاعه أو احتراق أحد أو بعض النباتات، إذ إن التنوع الأحيائي الطبيعي في النباتات لا يسمح بسقوط أوراق جميع الأشجار في وقت واحد، فكل نوع تتساقط أوراقه في وقت موسمي محدد، ومن هنا فإن وجود نوع واحد من الأشجار في غابة ما، يعمل على تساقط أوراق كل هذه الأشجار في زمن وموسم واحد، فتتغطى أرض الغابة بطبقة سميكة من الأوراق التي تجف بعد ذلك، ومتى ما تعرضت لشعلة نارية أو برق، اشتعلت بسرعة، وتسببت في حريق الغابة. ولذلك يكون معدل الحرائق في الغابات التي تحتوي على نوع واحد من الأشجار أعلى كثيراً من معدل الحرائق التي تسجل في الغابات الطبيعية ذات التنوع الأحيائي الكبير، ومن هنا فإن تنوع الأشجار والنباتات في الغابة الصناعية أو الطبيعية يعتبر أفضل وسيلة تحدُّ من انتشار الحرائق في الغابات، حيث لا تتعرض جميع الأشجار في وقت واحد لتساقط الأوراق، فإذا ما اندلع حريقٌ عند شجرة جافة، فإن رطوبة واخضرار الشجرة المجاورة لها تشكل عائقاً أمام انتشار النيران.


الفائدة السابعة: التخفيف من الجهد والعناء:

إن تنوع النباتات لا يعمل على تساقط الأوراق على الأرض من جميع الشجر في زمن ووقت واحد، بل يختلف زمن سقوط أوراق النباتات حسب نوع النباتات، فلا تتراكم الأوراق وتتكدس بكميات كبيرة على الأرض. ووجود نوع واحد من النباتات في البيئة أو الحقل، يعني سقوط أوراقه في زمن واحد فيعمل ذلك على تراكم الأوراق بكثرة فيزيد ذلك من الجهد والعناء لمعالجة هذه المشكلة.


الـهـوامـش:

(1) مدخل إلى العلوم البيئية، العودات وزملاؤه، ص 258

(2) الموسوعة العربية العالمية، مج 14، ص 51

(3) الموسوعة العربية العالمية، مج 3، ص 148

(4) هندسة البيئة، فاضل حسن أحمد، ص 537

(5) معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري، (ت 311هـ)، مج 3، ص284.

 
http://www.eajaz.org//index.php/component/content/article/84-Twenty-sixth-issue/812-Importance-of-plant-biodiversity-in-the-environment