الدوبامين والتحكم فـي الدورة الدماغية | العدد الثالث عشر
الدوبامين والتحكم فـي الدورة الدماغية
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



الدوبامين والتحكم فـي الدورة الدماغية

د. وليد أحمد فتيحي

طبيب استشاري وعضو هيئة التدريس بجامعة هارفرد

نشرت جريدة النيويورك تايمز في عددها الصادر في التاسع من فبراير 2002م مقالاً بعنوان Hijacking the Brain (اختطاف دورة الدماغ). تبدأ الكاتبة بقولها: قد لا يبدو أن هناك علاقة واضحة بين الإدمان على لعب القمار أو الحرص على حضور المباريات الرياضية أو الحماس للاستثمار في الأسهم، ولكن علماء الأعصاب اكتشفوا علاقة بين كل الأنشطة التي يقوم بها الإنسان على الرغم من تفاوتها واختلافها، حيث يعتقد الباحثون بناء على الاكتشافات الحديثة في هذا العلم أن معظم ـ إن لم يكن جميع ـ تصرفات الإنسان تخضع لدورة دماغية تتكون في الإنسان، وفي الحيوان، وتتطور على مدى مراحل النمو، وهي المسؤولة في الحيوان عن تقدير المكافأة على أي عمل، وتعمل على ضمان البقاء. أما في الإنسان فإنها تشمل كذلك المكافآت الاجتماعية وكذلك معظم تصرفات الإنسان وقراراته. وأعجب ما في هذا الاكتشاف الطبي الحديث هو أن النظام الدماغي والعصبي الذي يكتشف ويخمّن ويقوّم ويقدّر هذه المكافآت الاجتماعية والتي بدورها تتحكم في قرار الإنسان هي في الحقيقة تعمل كلية خارج نظام ونطاق العقل الواعي. ويأتي هذا الاكتشاف كتحدٍ واضح وصريح لاعتقاد الإنسان أنه يصنع قراره دائمًا بعقله الواعي، بل ويؤكد الباحثون أن معظم عمل الدماغ هو في نطاق العقل اللاواعي. وقد بدأ البحث في هذا المجال منذ عشرات السنين حيث درس علماء النفس عملية معالجة المعلومات في اللاواعي على شكل التأثيرات التي هي دون الإدراك ودون الإحساس ودون الوعي ودورها في صنع قرار الإنسان وتصرفاته. وقد بدأ العلماء بالفعل عملية رسم خريطة تفصيلية لأجزاء الدماغ المسؤولة عن هذه العملية، ولكن العلماء يعتقدون أنهم ـ ولأول مرة في تاريخ هذا العلم ـ يكتشفون كيف تعمل هذه الدورات الدماغية). يقول الدكتور برنز Gregory Berns وهو عالم نفس من جامعة إموري Emory: (في اعتقادي أن معظم قرارات الإنسان تصنع في العقل اللاواعي، مع وجود تدرج في مدى الإدراك).
وقال كذلك: (إنني لا أذكر تمامًا كيف وصلت إلى عملي هذا الصباح حيث يحتفظ الدماغ الواعي بالأشياء الأكثر أهمية، ولكن كيف يستطيع العقل أن يقرر أي الأشياء يجب تركيز العقل الواعي عليها، والجواب هو أن الدماغ يتطور منذ الأيام الأولى من حياة الإنسان بناء على ما يشاهده ويعايشه. ويقوم الدماغ ببناء نموذج داخلي لكل شيء تقع عليه العين وتسمعه الأذن، وتدريجيٌّا يتعلم كيف يمكن تحديد هذه الأشياء والتنبؤ بالتصرفات المتوقعة منها. وفي حالة دخول معلومات جديدة من الخارج على الدماغ فإن الدماغ يعمل بصورة تلقائية فيقارن بين المعلومات الجديدة وبين النموذج الداخلي، فإذا طابقت النموذج الداخلي؛ مثل قيادة السيارة إلى العمل والمرور على المشاهد اليومية النمطية بدون أي تعليق ـ فإن المشاهد المتكررة المعتادة المألوفة لا تصل إلى العقل الواعي. ولكن في حالة وجود مفاجأة مثل رؤية حادث سيارة في الطريق يكون هناك تفاوت بين المتوقع والواقع، فيتحول الدماغ فورًا إلى حالة جديدة من العقل الواعي، ويحتفظ الدماغ ببنك للمعلومات بناء على الخبرة التي اكتسبها الدماغ خلال حياته. وتشكل هذه المعلومات المرجعية التي يعتمد عليها الدماغ في صنع القرار، ولكن هذه المعلومات في حد ذاتها هي كذلك حصيلة ما تقع عليه العين وتسمعه الأذن ويعايشه الإنسان في حياته ليخزن ـ دون إدراك الإنسان ـ في عقله اللاواعي. وقد اكتشف الباحثون المادة الكيميائية المسؤولة عن التحكم في هذه الدورة الدماغية وتسمى بالدوبامين Dopamine وفي حالة توافق الحدث مع المتوقع فإن الدوبامين يفرز بكمياته المتوقعة المعتاد عليها لمثل هذا الحادث. أما في حالة حدوث مفاجأة أعلى من المتوقع لمثل هذا الحدث فإن الدوبامين يفرز بكميات كبيرة ويرسل إشارات لأجزاء الدماغ لحثّها على القيام بالعمل والحركة والتصرف المنشود رغبة في إحداث إفراز أكبر لهذه المادة. أما في حالة أن تكون نتائج الحدث أسوأ من المتوقع فإن الدماغ لا يفرز مادة الدوبامين، فيصاب الإنسان بحالة إحباط وعدم رغبة في الحركة والعمل لانخفاض إفراز الدوبامين في الجسم.
وتؤكد طرق تطور الدماغ الحديث دور الدوبامين في الجزء الأمامي من الدماغ (الناصية) في إحداث نشوة المكافأة أو إحداث خيبة الأمل والإحباط.

ويؤكد العلماء في نهاية المقال أن المعادلات الرياضية التي يستخدمها علماء الاقتصاد لدراسة وفهم تغيرات السوق الاقتصادي هي ذاتها المعادلات الرياضية التي يستخدمها علماء النفس وعلماء الأعصاب والدماغ في دراسة وفهم تغيرات إفرازات مادة الدوبامين، ويؤكد الدكتور مونتاغو Read Montague من جامعة بايلور أن علم الأعصاب والدماغ قد يقدم مجموعة عوامل جديدة تمامًا لفهم طريقة صنع القرارات الاقتصادية.

إن ما ذكر أعلاه لا يتعارض البتة مع تعاليمنا الإسلامية، بل يؤكد مفهومًا إسلاميٌّا مهمٌّا، ألا وهو دور المناخ والمحيط وتأثيره في صناعة عقل وفكر الإنسان وقراراته، وليس من تعارض مع قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن). أي طريق الصواب والخطأ، حيث إن الآية لا تعني بالضرورة أن قرارات الإنسان جميعها تخضع للعقل الواعي، فالمناخ الذي يعيش فيه الإنسان وما تقع عليه عينه وتسمعه أذنه، ومن يصاحب ومن يعاشر وما يقرأ ـ كلها عوامل تساعد على صنع قراره، وتعمل دون الإدراك ودون الحس ودون العقل الواعي في تأثيراتها. وإن كان الإنسان مخيرًا في منشئها فهو مخير في انتقاء كثير مما يقرأ ويسمع ويرى، ومن يصاحب. ولكن لكل خيار واع تبعات وتأثيرات تعمل دون الإدراك ودون الوعي ودون الإحساس لتشكل المرجعية العقلية والنفسية التي تصنع القرارات والتصرفات المستقبلية. وبذلك فإن صناعة الفرد المسلم، وصناعة المجتمع الإسلامي لا تكون بمعزل عن كل ما يدور حول الفرد وما تقع عليه عيناه وتسمعه أذناه ويشاهده ليل نهار.
وعلينا هنا أن نقف وقفة جادة لنسأل أنفسنا كأفراد ومجتمعات: ما هو دور الزخم الهائل من المعلومات المدروسة التي تنهال علينا ليل نهار، وتنقل لنا في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ونمط الحياة الذي يفرض علينا، وكله من تدبير وصنع وتخطيط غيرنا؟! ما دور كل هذا في صنع عقلية الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي وفي قدرته على صنع قراراته المستقلة ـ الصغيرة منها والكبيرة؟! وما هي الخلفية العقلية والنفسية لهؤلاء الذين يصنعون القرارات الجسيمة والعظيمة لخير أمة أخرجت للناس؟!  أَنَاصِيَةٍ صادقةٍ صائبةٍ؟ أم نَاصِيَةٍ كاذبةٍ خاطئ؟