الصـدفة المزعـومـة.. أيـن هي؟ | العدد الحادي عشر
الصـدفة المزعـومـة.. أيـن هي؟
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



الصـدفة المزعـومـة.. أيـن هي؟
د. عدنان فقيه
كثيرًا ما وردت كلمة (صدفة Chance) في الفلسفة الغربية عند الحديث عن أصل نشأة الكون وعن مدى الحاجة لوجود خالق له من الناحية العقلية وذلك بناءً على معطيات العلم الحديث والحقيقة أن هذه الكلمة اُستخدمت استخدامًا غير بريء بالكلية إذ إنها وُظِّفت لتقديم بديلٍ عن التفسير (الخلقي) لوجود الكون، ذلك أن هؤلاء المنكرين لوجود الخالق عز وجل يريدون أن يوهموا الجماهير أنهم إذ يصرفونهم عن الاعتقاد بوجود خالق للكون فإنما يحيلونهم إلى بديل (مألوف) لديهم يعرفونه ويستخدمونه في حياتهم اليومية ألا وهو مفهوم (الصدفة) والذي يضطرهم إلى هذا المسلك هو أنه من غير الممكن للفطرة السوية ولا (للحس العام) أن يقبلا بوجود شيء من لا شيء مهما تقعرت ألفاظ المتفلسفين وتعرجت بهم السبل من أجل الوصول إلى مبتغاهم، ففي نهاية المطاف يعود المرء إلى نفسه بعد قراءة طويلة لحجج هؤلاء وسفسطاتهم ليقول: أتريد أن تقنعني أن هذا الكون الهائل المحكم في بنائه قد أنشأه العدم!!؟؟، لن يقبل بهذا التفسير إلا شواذ الشواذ، ولن يقبلوه إلا وهم يكذبون على أنفسهم، ولذلك فهم لا يجرؤون على أن يصرحوا به بل يختبئون وراء ما يسمونه بجدلية (الصدفة) لتكون بديلاً عن جدلية (الخلق) لكن هؤلاء على كثرة كتاباتهم حول هذا الموضوع لا يُعرِّفون لنا معنى كلمة (صدفة)، تلك الكلمة التي يكثرون استخدامها والتعلق بها.
ولقد تصفحت عشرات الكتب والمقالات التي تدافع عن نظرية الصدفة هذه وتعمدت أن أبحث فيها عن تعريفٍ لكلمة (صدفة) فلم أعثر على ذلك إلا في أقل القليل منها وكانت تلك التعريفات تظهر على استحياء وبشكل سطحي وغير دقيق، وأزعم أن هذا الأمر مقصود حيث إن الخوض في تعريف كلمة (صدفة) يُعرِّي قضية هؤلاء من الهدف الذي من أجله أُقحمت تلك الكلمة وهو كما أشرت سابقًا إحالة القارئ إلى معنى مألوف لديه يستخدمه في حياته العادية ليكون بديلاً عن الحقيقة الفطرية والأكثر ألفة لديه والتي تستشعر الحاجة إلى وجود خالق لهذا الكون.
الصدفة في حياتنا اليومية:
وما دام الأمر كذلك فلنبحث إذًا عن ذلك المعنى المألوف لكلمة الصدفة في حياتنا اليومية والذي يحاول الملحدون أن يستدعوه من ذاكرتنا للهروب من الاعتراف الصريح بما تنطوي عليه مقولتهم من خلق العدم للوجود، لنرى إذا كان ذلك المعنى المألوف يسمح باستخدامه وتوظيفه بالطريقة التي يريـدون ولـو تتبعنا اسـتخدام كلمة (صدفة) في حياتنا اليومية لوجدنا أن هذه الكلمة لا تستخدم في حياتنا اليومية إلا للتعبير عن واحد من ثلاثة مفاهيم:
1 ـ للتعبير عن عدم القصد من وراء الفعل مع إمكانية فعل الفعل بقصد، كأن تلتقي بصديق في محل تجاري من غير موعد فتقول لقيته صدفة أي بغير قصد مني أن ألقاه،
2 ـ للتعبير عن وجود القصد لإحداث الفعل مع عدم توفر القدرة على فعله، كأن يرمي رجل لا يعرف فنون الرماية هدفًا فيصيبه من أول رمية فيقال: إن إصابته للهدف كان من قبيل الصدفة أي ليست عن استحقاق ومهارة لديه.
3 ـ للتعبير عن عدم وجود رابط بين حدثين متزامنين أو متلاحقين أي انتفاء ما يسمى برابط السببية بينهما سواء كان هذا الرابط مباشرًا باعتبار أحدهما (سبب) والآخر (نتيجة)، أو غير مباشر باعتبار أن كليهما نتيجة مشتركة لسبب ثالث غير ظاهر، والأمثلة على ذلك كثيرة منها موت إنسان ما وصراخ امرأة تقطن المنزل المجاور له لسبب آخر فنقول: إن تزامن صراخ المرأة مع موت الرجل أو حدوثه بعد الموت مباشرة كان من قبيل الصدفة وليس بسبب حدث الموت.
وقبل أن نشرع في النظر في علاقة استخدامنا اليومي لكلمة (صدفة) مع استخدامها في الحديث عن نشأة الكون لا بد أن نشير إلى أن هناك استخدامًا يوميٌّا لكلمة (صدفة) يندرج في حقيقته تحت النوع الثاني المشار إليه آنفًا، وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنه يمثل صنفًا رابعًا مستقلا عن الاستخدامات التي حصرناها، ولنأخذ المثال التالي لتوضيح هذا الأمر:
بينما كان طفل صغير يعبث بعود خشبي في الرمل الموجود على شاطئ البحر ـ إذ به يعثر على خاتم مدفون في الرمل، فيسارع به إلى أمه التي يتبين لها بعد فحصه أنه ذات الخاتم الذي فقدته في رحلة سابقة لأسرتها إلى شاطئ البحر، وإذ بها تتذكر كيف أمضت وقتًا طويلاً في محاولات العثور عليه من غير جدوى، لو أننا تأمّلنا في هذا المشهد فإننا سوف نتصور إمكانية أن نستخدم كلمة صدفة قائلين: إن الطفل وجد الخاتم عن طريق (الصدفة)، وهذه الحالة من استخدام كلمة صدفة لا تندرج ـ في الظاهر ـ مع أي من الحالات السابقة؛ فالطفل لم يكن يقصد العثور على الخاتم، بل ربما لم يكن يعلم بفقده في المقام الأول، كما أنه لم يكن يملك القدرة ـ لو علم بفقده ـ على العثور عليه، إذ إنه لم يكن يعرف مكانه، فهل يمكن أن نعد هذه حالة رابعة لاستخدام كلمة (صدفة) في حياتنا اليومية بحيث يعبر هذا الاستخدام عن عدم وجود القصد لفعل الحدث وعدم وجود القدرة على فعله؟ قبل أن نسارع لنقول بصحة هذا التصور يجب أن نتنبه إلى أننا لم نكن لنستخدم كلمة (صدفة) لو أن هذا الطفل وجد غطاءً لزجاجة أحد المشروبات الغازية مدفونًا في رمل الشاطئ بدلاً من الخاتم المفقود! مما يعني أن هناك خصوصية للعثور على الخاتم لا يوجد نظير لها في حالة غطاء المشروب الغازي؛ جعلت استخدام كلمة الصدفة سائغًا هنا وغير سائغ هناك، فما هي هذه الخصوصية؟ لا شك أن هذه الخصوصية تكمن في كون الخاتم مهمٌّا بالنسبة لأم الطفل على خلاف الغطاء، وهذه الأهمية يمكن ترجمتها في وجود (قصد) من ناحية الأم إلى الحصول على هذا الخاتم أو العثور عليه، الأمر الذي يعيدنا إلى النوع الثاني من استخدامات كلمة صدفة في حياتنا اليومية، والذي بينّا أنه يدل على وجود القصد لإحداث الفعل مع عدم وجود القدرة على إحداثه، والفرق هنا أن (القصد) لم يكن في ذهن الفاعل (الطفل) إنما كان في ذهن شخص آخر (الأم) ولذلك فإن الخاتم لو كان من النوع الرخيص ووجده رجل لا يعرف قيمته لدى أصحابه لم يكن ليستخدم كلمة صدفة لوصف حدث عثوره عليه إذ سيكون لا فرق كبيرًا عنده بين العثور على الخاتم وبين العثور على غطاء زجاجة المشروب الغازي، وكذلك الشأن لو أن رجلاً وجد قطعة ذهبية في شاطئ البحر لساغ له أن يقول: إنه وجدها عن طريق الصدفة ويكون هذا الاستخدام أيضًا من قبيل النوع الثاني من استخدامات كلمة صدفة مع ملاحظة أن (القصد) هنا لا يعود إلى رغبة العثور على تلك القطعة الذهبية بالتحديد في ذلك المكان والزمان ولكن يعود إلى كون الحصول على أي شيء من الذهب أمرًا (مقصودًا) ـ في العادة ـ بغض النظر عن الزمان والمكان، وبعبارة أخرى فكأننا نقول: إن (الحصول على الذهب) رغبة موجودة لدى كل إنسان وهي بذلك تعبر عن (قصد) كامن يتجلى في صورة الانفعال الذي يحدث له عند تحقق هذه الرغبة.
الصدفة بين الاستعمال اليومي ومسألة نشأة الكون
يمكننــا أن نرى بوضوح ـ مـن خلال الاســتخدامات اليومية لكلمة (صدفة)ـ أنه لا علاقة لمفهوم الصدفة الذي نستخدمه مع ما يحاول هؤلاء الملحدون أن يوهمونا به، ففي الحالتين الأوليين كان استخدام كلمة (صدفة) يقتصر على التعبير عن عدم القصد أو عدم القدرة لكنه لا يتحدث أبدًا عن عدم وجود فاعل أصلاً ولا يمت إلى هذه الفرضية بأية صلة! فكونك التقيت بصديقك في المحل التجاري صدفة لا يعني أن هذا اللقاء تم بدون أن يكون هناك فاعل له، والفاعل هنا ـ كما هو واضح ـ هو أنت وصديقك فكلاكما قام بعمل من أجل إحداث هذا اللقاء كالمشي من المنزل إلى المحل التجاري مثلاً، وغاية الأمر أنكما لم تقصدا إحداث اللقاء، وكذلك الشأن في الاستخدام الثاني لكلمة الصدفة، فكون الرمية التي رماها المبتدئ في الرماية أصابت الهدف (صدفةً) لا يعني أن ذلك حدث دون الحاجة إلى فاعل وهو الرامي في هذه الحالة، فإطلاق كلمة صدفة على هاتين الحالتين لا يعني مطلقًا عدم الحاجة إلى وجود فاعل للأحداث، وإنما يعني أحد أمرين: إما عدم القصد لإحداث الفعل وإما إحداث الفعل مع وجود القصد ولكن دون وجود القدرة على إحداثه، وفي كلتا الحالتين فإن الفاعل موجود وهو ما يريد المشككون نفيه، فأي حجة لهم في استخدام كلمة صدفة سوى تضليل الناس وإيهامهم بوجود بديل معقول لمسألة الخلق؟ وعلى ذلك فإن استخدامهم لكلمة (صدفة) بأحد هذين المعنيين في إطار مسألة نشأة الكون هو في الحقيقة مكافئ لأن يقولوا: إن للكون خالقًا ولكنه خلقه من غير قصد منه، وكان بالرغم من ذلك بهذا الإتقان والعظمة، أو أن يقولوا: إنه قُصد خلقه بهذا الإتقان والعظمة لكن خالقه لم يكن يملك القدرة على ذلك، وإنما حدث له ذلك عن طريق الصدفة، فهل يقول بهذا الكلام عاقل؟ تعالى الله عن ذلك علوٌّا كبيرا وبالرغم من ظهور فساد هاتين المقولتين، إلا أن الأمر الأهم هو كون المنكرين إنما يريدون أصلاً من وراء فكرة الصدفة نفي الحاجة إلى وجود الخالق، الأمر الذي لا يتيحه لهم استخدام كلمة (الصدفة) بأحد هذين المعنيين، أما الاستخدام الثالث لكلمة صدفة فيقتضي أن يكون هناك حدثان كما ذكرنا متزامنين أو متلاحقين والبحث حينئذٍ يكون في علاقة أحدهما بالآخر هل هي صــدفية أم سببية وهم ـ أي المتعلقون بنظرية الصدفة ـ إنما يتحدثون عن حدث واحد وهو نشأة هذا الكون، فما هو الحدث الآخر الذي يستخدمون الصدفة للتعبير عن العلاقة بينه وبين نشأة الكون؟ ليس هناك جواب إلا أن يقال: إنه وجود الحق ـ سبحانه وتعالى ـ مع اعتراضنا على تسمية ذلك حدثًا ـ وحينئذٍ لا حاجة للمناقشة معهم إذ أثبتوا وجود الخالق وهو الأمر الذي يريدون نفي الحاجة إليه، أو أن يقولوا بوجود حدث آخر قبله وهي فرضية لا دليل عليها وتستلزم التسلسل أو الدور(1) وكلاهما باطل وخلاصة القول: إن استخدام كلمة (صدفة) في حياتنا اليومية لا يطلق على إيجاد شيء من لا شيء، وبذلك لا يصح استخدامها كبديل لمقولة الخلق والتي تطلق على هذا المعنى ولو أن إنسانًا أبصر وهو يسير في الطريق بيتًا يظهر فجأة في الخلاء وأراد أن يصف هذا الحدث المذهل لربما قال: إن ظهور البيت كان من قبيل المعجزة أو الخارقة لكنه قطعًا لن يقول: إن ظهور البيت كان من قبيل الصدفة، فمن أين تسلل هذا الاستخدام لكلمة صدفة ليحل محل كلمة الخلق؟!
قراءة أخرى لنظرية الصدفة؟
وقد يقول قائل: إنهم إنما يريدون بمقولتهم إن الكون نشأ صدفة ـ كونه تطور من حالة أولية تسودها الفوضى إلى حالة منظمة كما نراها اليوم من دون الحاجة إلى منظم لهذا التطور ومهيمن عليه، ولا يريدون بذلك خروجه من العدم إلى الوجود، وجوابنا عن ذلك من عدة وجوه أولها أنهم قلّما يشيرون إلى هذا التفريق متعمِّدين دمج المسألتين بدليل اعتبار (نظرية الصدفة) بديلاً عن (نظرية الخلق) لديهم و(الخلق) لا ينصرف أصلاً إلى التنظيم من الفوضى فذلك (ترتيب) أو (صنع)، وإنما المعنى الأقرب تعلقًا في هذا السياق لكلمة (خلق) هو أن يُقصد بها إخراج الوجود من العدم وثانيها أنهم إن أرادوا صدفية التنظيم لا الخلق نقول لهم: إن هذا صرف للمسألة عن أصلها؛ فإن إخراج الوجود من العدم أعظم من إخراج وجود منظم من وجود غير منظم، فلماذا تركتكم أصل المسألة وأعظم جانبيها وتعلقتم بالآخر؟، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذه الحقيقة حيث قال الحق سبحانه وتعالى: )لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ(، ذلك أن الإنسان خُلق من وجود سابق له وهو الحمأ المسنون كما في حالة آدم ـ عليه السلام ـ وخُلق من غيره من البشر كما هو في سائر الناس، أما السموات والأرض فقد خلقهما الله ـ تعالى ـ من العدم ومن أجل ذلك كان خلقهما أكبر من خلق الناس والله ـ تعالى ـ أعلم وثالث هذه الوجوه هو أنهم لكي يثبتوا أن الكون إنما (تطور) بمحض الصدفة، أخذوا يبحثون عن قوانين وسنن تساند قولهم وهو اتجاه في البحث يمضي على العكس من الأمر المراد إثباته، فما دامت العملية كلها عشوائية تعتمد على الصدف فلماذا نفترض هيمنة القوانين إذًا، أليس الأَوْلَى أن نقول: إن قضية الصدفة لا يمكن إثباتها لأنها عشوائية؟! وإذا وافقنا هؤلاء ـ جدلاًـ وقلنا: إن الصدفة تولد نسقًا ونظامًا فلا يمكننا أن نوافقهم على استخدام هذا النسق والنظام لإثبات الصدفة، وذلك لأن هذا النسق وذلك النظام إنما نَشَآ عن طريق الصدفة ـ على حد زعمهم ـ وليس اعتمادًا على بناء منطقي أو رابط سببي يمكن تتبعه للرجوع إلى أصل القضية والحكم عليها نعم قد نقبل ممن يعتقد أن الكون كله يسير وفقًا لنظم وقوانين أن يبحث عن النظم والقوانين، أما من يبني فلسفته في فهم سر وجود الكون على أساس الصدفة والعشوائية ثم يستدل بالأنظمة والقوانين فلا يمكن تفسير تصرفه إلا على أنه مسلك انتقائي نفعي لا يقوده إلا الهوى ولا يمت إلى السعي للوصول إلى الحقيقة بصلة.
التنظيم الذاتي، ومحاولة أخرى فاشلة!
ومن الحجج التي يستخدمونها للتدليل على أن الصدفة يمكنها أن تنتج نسقًا منظمًا مقولة التنظيم الذاتي (Self-organization) ومقولة التعقيد (Complexity) التي تنسب إلى نظرية الفوضى، والتي استخدمت فيها عمليات المحاكاة الحاسوبية لمحاولة إثبات أن هناك نظمًا يمكن أن تطور نفسها بنفسها ابتداءً من قواعد في غاية البساطة وبدون تدخل خارجي(2)، ولو سلمنا جدلاً بمشروعية هذه المحاولات الحاسوبية يبقى السؤال الملحّ عن تلك القواعد البسيطة، مَن الذي وضعها؟ ثم مَن الذي جعل احترامها (واجبًا) داخل تلك النظم؟ لكننا في الحقيقة لا نسلِّم بمشروعية هذه المحاولات الحاسوبية إذ إنها تبني برهانها لإثبات ما تريد على (مُسلَّمةٍ) لو صدّقنا بها لما احتجنا إلى ذلك البرهان أصلاً ذلك أن هذه (المسلَّمة) تتضمن النتيجة التي يريد البرهان إثباتها! فهي تفترض أن خلوّ هذه الأنظمة من الإرادة الإنسانية يقتضي خلوّها من الإرادة مطلقًا، ونحن لا نسلم بخلوها من الإرادة الإنسانية، فضلاً عن أن نسلم بخلوها من الإرادة مطلقًا، فالمؤمن يعتقد أن له مشيئة خاصة به، وأن المشيئة الإلهية حاضرة دائمًا ومهيمنة على مشيئته ومشيئة كل مخلوق كما قال تعالى: )وَمَا تَشَآءُونَ إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّه رَبُّ العَالمَين (، وهو يعتقد أن هذا مما يستلزمه تصوره لوجود إله لهذا الكون، كما سوف نفصل في ذلك لاحقًا، فهذه التجارب الحاسوبية تعتمد على ما يسمى بالأرقام العشوائية، وبعبارة أدق الأرقام العشوائية الكاذبة (pseudorandom numbers)، والتي تنتج عن معادلات يصممها الإنسان لتولد هذه الأرقام، فهو (يحاول) أن يخلي هذا الأرقام من أن تكون (مقصودة) وذلك قصارى ما يمكن عمله لتُعتبر هذه الأرقام عشوائية، وهذا بحد ذاته (قصد) ـ كما هو ظاهر ـ والذي يمثل هذا (القصد) هنا هو المعادلة المولدة للأرقام العشوائية، فلا انفكاك إذًا من القصد في توليد هذه الأرقام، الأمر الذي ينفي عنها العشوائية أو بعبارة أخرى يجعلها (كاذبة العشوائية) غير أنه قد شاع مؤخرًا استخدام بعض الأرقام (العشوائية) المولدة من أنظمة طبيعية مثل الجسيمات الكمومية، لكننا لا نقر بعشوائية هذه أيضًا، إذ من أين لنا أنها عشوائية؟، إن ذلك ليس سوى افتراض محض يقوم على تصور أن عدم قدرتنا على التنبؤ بسلوك هذه الجسيمات يعني عشوائيتها، كما أن مفهوم العشوائية نفسه يفترض غياب القصد كما أسلفنا، الأمر الذي يعني ـ في التصور الإسلامي ـ خلو الكون من الإله، فلو صدقنا بهذه الفرضية لما احتجنا إلى نتائج هذه التجارب الحاسوبية أصلاً، أمَا ونحن لا نُسلِّم بها فلا قيمة إذًا لهذه النتائج المبنية عليها عندنا.
المعنى الاصطلاحي للصدفة:
وبالطبع فيمكن لقائل أن يقول: إن القوم لا يقصدون المعنى اليومي المستخدم لكلمة (صدفة) وإنما يقصدون المعنى الاصطلاحي لها، وجوابنا عن ذلك أنه للأسف لا يوجد معنى اصطلاحي متفق عليه لكلمة (صدفة)، حتى نتمكن من مناقشتهم على أساسه، وقد سرد صاحب (موسوعة الفلسفة والفلاسفة) عددًا من التعريفات التي تنسب لكبار الفلاسفة، نَمُرُّ عليها سريعًا مبيّنين أنه لا يكمن استخدام أي واحد منها في مسألة نشأة الكون(3)، فـ(سيمون لابلاس) و(برتنارد رسل) يعرفان الحدث الصدفي على أنه (الحدث مجهول العلة) فإذا كان هذا المعنى الاصطلاحي هو المقصود فيكون استخدام كلمة صدفة هنا بمثابة قولهم: إن علة الكون (أو علة إنشائه من العدم) مجهولة وهذه العبارة ـ كما هو ظاهر ـ إنما تصف حال قائلها ولا تصف حقيقة موضوعية تتعلق بوجود الكون، إذ غاية ما تصف غياب العلم بالعلة وليس غياب العلة ذاتها، أما ما ذهب إليه (أنطوان كورنو) متابعًا (أرسطو) و(مل) من أن الصدفة هي تزامن سلسلتين علِّيّتين مستقلتين، فقد أجبنا عنه عند الحديث عن الحالة الثالثة التي نستخدم فيها كلمة صدفة في حياتنا اليومية، يبقى رأي (بيقور) و(بيرس) و(وليام جيمس) والذي يرى بأن هناك حوادث لا تعليل لها وتسمى لذلك حوادث صدفية محضة، الأمر الذي جاءت الفيزياء الكمومية لتشجعه في نظر البعض بما ينطوي عليه مبدأ عدم التحديد(4) من وضع سقف لإمكانية المعرفة بشكل عام في العالم دون الذري، وفيما يخص هذا الاستخدام لكلمة (صدفة)، فإن الزعم بأن هناك حوادث لا تعليل لها لا يستند على برهان ولا يمكننا التحقق من صحته مطلقًا، وقصارى ما يمكن أن نقوله: إنه لا (يُعرف) لهذا الحدث أو ذاك علة، لكن نفي وجود العلة مطلقًا قضية معرضة للنقض في أي وقت بإمكانية معرفة علة ما وراء الحدث مهما كانت تلك العلة غريبة أو غير مدركة، كما أن العلل عندهم تقتصر على ما يمكن للتجربة أن ترصده، وذلك افتراض نعترض عليه إذ يتضمن أنه لا وجود لغير ما تدركه الحواس، وهو أصل المسألة التي نتحدث عنها، فلو وافقنا على هذا الافتراض لما كانت بيننا وبينهم قضية أصلاً، إضافة إلى ذلك فإن الحديث عن العالم دون الذري لا يخلو من أمرين يجعلان إمكانية إثبات عدم وجود علة وراء الحدث أمرًا مستحيلاً، أولهما كون المفاهيم المستخدمة في هذا العالم الدقيق لا تعكس بالضرورة وجودًا حقيقيٌّا موضوعيٌّا، ومن ثم فإن أية محاولة لإثبات عدم العِلِّية ـ إن نجحت في ذلك ـ فإنها مرتبطة بالمفاهيم المستعملة في فهم هذه الظواهر دون الذرية، والتي هي ـ كما أسلفنا ـ مجرد مفاهيم أداتية لا مطابقة ضرورية بينها وبين الواقع الذي تحاول أن تصفه، وثانيهما هو حقيقة أن التعامل مع العالم دون الذري يتأثر ـ كما هو معلوم ـ بالمراقب نظرًا لحساسية هذا العالم لأدوات القياس، وهذا يعني انتفاء الموضوعية (التامة على الأقل) في النتائج التي يحصل عليها المراقب وبالتالي فأقصى ما يمكن قوله هو عدم إمكان معرفة العلة (بالنسبة) للمراقب لا عدم إمكان معرفتها مطلقًا، فضلاً عن القول بعدم وجودها، وقد أشار إلى مثل ذلك العالم الإنجليزي الشهير (ستيفن هوكنج) حيث قال في معرض حديثه عن الحدود التي يضربها مبدأ عدم التحديد على المعرفة المتزامنة لمكان الجسيم وطاقته ـ قال: إن ذلك لا يمنعنا أن نتصور أن هذه المعرفة ممكنة بالنسبة لمراقب فوق طبيعي خارق يمكنه أن يلاحظ الحالة الراهنة للكون دون أن يؤثر عليه(5)، ومع عدم اتفاقنا مع هذا (الشرط) للمعرفة والذي يمليه على صاحبه التصور العلمي (القاصر) لطبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، إلا أن الشاهد هنا هو أنه حتى في هذا التصور العلمي المحدود، فإن المبادئ والقوانين الفيزيائية ليس لها تلك المصداقية المطلقة التي يحاول أن يروج لها البعض.
مبدأ عدم التحديد هل يفسر إيجاد شيء من لاشيء؟
بقي أن نعرّج على ما يقال أحيانا من أن الفيزياء الكمومية، وبالذات مبدأ عدم التحديد يسمح بظهور جسيمات من العدم لفترات زمنية قياسية في الصغر ثم اختفائها ثانية، الأمر الذي طبّل له القائلون بنظرية الصدفة واعتبروا اكتشافه (إنجازًا) يحسب لصالح نظريتهم! وقد حاول بعض العلماء الأفاضل التشكيك في صدقية هذا الأمر باعتبار أن هذه الجسيمات لا تخرج من العدم وإنما تظهر ضمن الإطار الزماني ـ المكاني (الزمكان) المحيط بها والزمكان ليس عدمًا(6)، ومع وجاهة هذا الاعتراض إلا أننا نرى أن هذه الجسيمات إن كانت تظهر من العدم بالفعل فلن تكون إلا دليلاً جديدًا على صحة عقيدة الخلق ومثالاً مُعَايَنًا على عظمة الخالق يزيد من حاجة المنكرين إلى التبرير والتفسير، فلم يعد الأمر مقتصرًا على حدث واحد (هو خروج هذا الكون من العدم إلى الوجود) وقع منذ بلايين السنين يمكن أن نغض الطرف عنه لنتحدث بدلاً عن ذلك عن تفاصيل تطور المجرّات وخلق الإنسان ومدى إمكانية أن يحدث ذلك صدفة، بل أصبح الأمر يتطلب تفسيرًا مُلحٌّا لظهور هذه البلايين من الجسيمات التي تنشأ في كل لحظة، مَن الذي أخرجها من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم مرة أخرى؟! ولا تلتفت إلى التفسير الواهي الذي يردده هؤلاء من أن (مبدأ عدم التحديد يسمح بذلك)، فالمبادئ والقوانين الفيزيائية تصف فقط ما يحدث ولكن لا تفسره ولا تبرره وهو أمر معروف ومقرر عند فلاسفة العلم في العصر الحديث كافة، بل وعند العقلاء الذين يفهمون أن القانون الفيزيائي إنما هو عبارة عن وصف للعلاقة بين الأشياء ولا شيء أكثر من ذلك، ولكي ندرك مدى تهافت هذا التعليل لنتصور أن رجلاً عاد إلى منزله بعد فراغه من العمل واتجه مباشرة إلى المطبخ ليشرب كوبًا من الماء، فإذا به يفاجأ بعدم وجود الثلاجة في مكانها المعتاد، فاتجه خارجًا ليجدها قد وضعت في ركن بهو المنزل، فلما سأل زوجته من الذي أخرج الثلاجة من المطبخ إلى البهو أجابته ببرود وثقة (إن باب المطبخ يسمح بخروج الثلاجة منه)! فهل يملك مثل هذا الرجل إلا أن يعتقد أن زوجته تتغابى أو تسخر منه إذ تجيبه بهذا الجواب، أو أنها قد أصيبت بلوثة في عقلها، هذا مع استبعاده أن تكون قد تعاطت شيئًا أثّر على عقلها أثناء فترة غيابه خارج المنزل! ومهما بدا هذا المشهد مضحكًا، إلا أن موقف هؤلاء المحتجين بالقوانين والمبادئ الفيزيائية على النحو الذي أوردناه هو أعجب وأغرب، فالباب الذي يصل المطبخ بالبهو موجود وقائم ومدرك بالحواس، بينما مبدأ عدم التحديد هو مفهوم أو فكرة تصورها الفيزيائيون لتحل لهم إشكالات تجريبية في العالم دون الذري، فقولهم: إن مبدأ عدم التحديد يسمح بظهور هذه الجسيمات من العدم لا يعدو أن يكون بمثـابة طمـأـنةٍ لهم بعــدم تعــارض هذه الظــاهرة مع المبدأ الذي اقترحوه لحل الظواهر التجريبية الأخرى التي وضعوا على أساسها هذا المبدأ، ولو تعارضت لوجب إعادة النظر في وجود هذا المبدأ أصلاً إذ إن مصداقيته ناشــئة من توافقــه مع الظــواهر التجريبية، وهذا بخلاف باب المطبخ في مثال الرجل الظامئ فهو موجود وجودًا مستقلا عن الثلاجة لا يعتمد تصديقنا بوجوده على كونه يسمح بمرور الثلاجة منه أو لا، فهل بعد تلبيسهم هذا من تلبيس؟!
عملية الخلق بين التوراة والقرآن
والذي يظهر أن القوم قد أوتوا من فهمهم الخاطئ لعملية (الخلق) في معناها الديني عندهم إذ إنهم يصطحبون دائمًا الرؤية التوراتية (المحرفة) التي تقول: إن الله خلق الكون في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، تاركًا الكون تحكمه القوانين التي فيه دون تدخل منه، فالذي يدير الكون وينظمه هو هذه القوانين والمخلوقات التي تسكنه فهي ـ في نظرهم ـ يؤثر بعضها على بعض تأثيرًا مستقلا تبعًا لاعتقادهم بوجودها المستقل، وهذه الرؤية تشوبها ظلال من الشرك إذ إنها تنسب إلى المخلوقات قدرة مستقلة فيكون الإيمان بوجود خالق للكون على هذا النحو إيمانًا مشوبًا بالشرك ينطبق عليه قول الله تعالى: )وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ(، وذلك على خلاف الرؤية الإسلامية للكون التي تكون لله فيها القيومية المتصلة على هذا الوجود فليس الوجود مستقلا بذاته وقوانينه بل هو محتاج في كل لحظة إلى الحق ـ سبحانه ـ ليمنعه من الزوال والفناء اللذين تستوجبهما حقيقة كون هذا الوجود مخلوقًا لا خالقًا ومربوبًا لا ربٌّا وبهذا المدد الإلهي المستمر والمتصل يقوم الكون ويبقى، وفي ذلك يقول الحق ـ سبحانه وتعالى: )إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ(، ويقول أيضًا: )وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ(، وفي الآية الأخرى: )وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ(، وفي ظل هذه الرؤية للكون يكون ظهور تلك الجسيمات الكمومية من العدم ليس بأعجب ولا أغرب من استمرار وجود الأرض التي نسير عليها والسماء التي نستظل بها، إذ إنهما آيلان للزوال في كل لحظة من لحظات وجودهما، وبقاؤهما مرهون بإذن الله وإمساكه لهما، وبذلك فهما ليسا أقل افتقارًا لقدرته ـ سبحانه ـ من افتقارهما لها حينما كانا عدمًا فأخرجهما إلى الوجود، أو من افتقار تلك الجسيمات الكمومية لقدرته ـ سبحانه ـ لكي يخرجها من العدم إلى الوجود، ويمكننا من خلال هذه الرؤية أن نعيد النظر في كثير من المفاهيم الفيزيائية والقوانين الطبيعية بما في ذلك المشكلات التي تطرحها الفيزياء الكمومية، لنرى أن كثيرًا من الغموض والحيرة التي تكتنفها يمكن تجاوزه إذا ما استندنا على التصور الإسلامي للوجود، الأمر الذي لا نستطيع تفصيله في هذه المقالة التي لم يقصد منها أصلاً الخوض في هذا المجال.

وخلاصة القول:
إن إقحام كلمة صدفة في مسالة نشأة الكون ليس له مسوغ إلا إيهام الجماهير أن هناك بديلاً مألوفًا لمسألة الخلق، ذلك أن الكثير من هؤلاء الجماهير لا يدرسون هذه النظريات الملفّقة بتمحيص وتدقيق ليتأكدوا من صدقها، بل يكفيهم من الماء السراب - كما قال الشاعر-ونظرًا للانتشار الواسع لهذا التوظيف لكلمة (صدفة) لا ينبغي أن نستغرب من تُعرِّف المصادفة اصطلاحًا على أنها: (خلو النظام الكوني من الإله)!(7).
إن هؤلاء الذين يتلاعبون بالألفاظ ليضللوا بها الجماهير لا ينبغي أن يستدرجونا إلى الخوض معهم في قضايا وهمية أو هامشية، ولا ينبغي لنا أن نسمح لهم بالتنصُّل من أصول المسائل إلى فروعها لتتحول النقاشات إلى جدل عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع، ولنا في سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ أسوة حسنة وهو الذي قال الله تعالى عنه:(وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه)، لنا فيه أسوة حسنة في جداله مع الملك الكافر:(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّىَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَاْ أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ(، فلم يلتفت سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى محاولة استدراج الملك له بالخوض في تفاصيل الحياة والممات وفي ماهية الموت والحياة التي قصدها ـ عليه السلام ـ عندما تحدث عنهما، ولكنه وضعه مباشرة أمام القضية الأساسية مرة أخرى بطريقة لا يمكنه معها المراوغة والتخلص )فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
فلا ينبغي لنا إذًا حينما نحاول الرد على القائلين بنظرية الصدفة في مسألة نشأة الكون أن نُستدرَج من قِبَلِهم لنجادلهم بحساب الاحتمال المتعلق بنشوء المجرّات والأرض والإنسان عن طريق الصدفة وإثبات أن هذا الاحتمال هو مقدار لا متناهٍ في الصغر، بل هو الصفر من الناحية العملية، ذلك أننا إذ نفعل ذلك نقر لهم باستخدام هذا المفهوم (المألوف) لدينا ـ وهو الصدفة ـ في مكان غير مكانه ليكون بديلاً عن المفهوم المألوف (الوحيد) الذي يمكن أن تسكن النفس إليه في قضية نشأة الكون ألا وهو وجود خالق له، كما أننا إذا سايرناهم في مسالة الصدفة هذه سوف نضطر إلى الدخول في مسألة تعريف معنى (الاحتمال) وهي مسألة شائكة في حد ذاتها، ثم في شرح كيفية حساب هذا (الاحتمال)، الأمر الذي لا يفهمه كثير من الناس والذي يغنينا عنه توضيحنا أن محصلة قول هؤلاء أنهم يزعمون أن العدم قد أنشأ الوجود، لنَقُل للناس محصلة قولهم هذه ثم لنترك الأمر بعد ذلك عند هذا الحد لنرى كم منهم يقبل بهذا التفسير.
وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً رائعًا في هذا الباب عندما عرض قضية خلق الإنسان عرضًا محكمًا موجزًا لا يدع مجالاً للشك ولا للمراوغة فقال تعالى: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ)
فإما أن يكون العدم قد أنشأهم أو هم أنشأوا أنفسهم وكلا الزعمين أمر يَمجُّه العقل السويّ، فيبقى لهم أن يقولوا إنهم نشأوا من الأرض من دون خالق (كما يزعم الدارونيون)، فيتجه السؤال حينئذٍ عن الذي خلق الأرض والسماوات، من هو؟ أيزعمون ذلك لأنفسهم؟ (بَل لا يُوقِنُونَ).

الهوامش والمراجع:

(1) التسلسل: هو القول بوجود سلسلة لا نهائية من الأحداث يعتمد كل حدث فيها على سابقه، وهو أمر ـ كما يدرك العقلاء ـ لا يبرر وجود هذه الأحداث ما لم ينته إلى علة أولى واجبة الوجود لا تعتمد في وجودها على غيرها، أما الدور: فهو توقف وجود الشيء على غيره وتوقف وجود هذا الغير على الشيء نفسه، كأن يقال: إن الذي يبرر وجود الحدث (أ) هو الحدث (ب) فإذا سألنا عن الذي يبرر وجود الحدث (ب) يقال لنا: إنه الحدث (أ).

(2) ينظر في ذلك المحاولات المختلفة التي وردت في كتاب:  Resnick, M،, ''Turtles, Termites, and Traffic Jams",2000, MIT Press،

(3) عبد المنعم حنفي، (موسوعة الفلسفة والفلاسفة)، 1999م، مكتبة مدبولي، القاهرة.

(4) يقضي مبدأ عدم التحديد بأن هناك سقفًا أعلى للدقة في قياس طاقة الجسيم ومكانه في نفس الوقت فكلما زادت دقة قياسنا لطاقته قلّت دقة قياسنا لمكانه والعكس صحيح.

(5) ستيفن هوكنغ، (موجز في تاريخ الزمان)، ترجمة عبدالله حيدر، 1990م، أكاديميا، بيروت.

(6) انظر كتاب (الفيزياء ووجود الخالق) للدكتور جعفر شيخ إدريس الصادر عام 1997م عن معهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا، حيث استشهد الباحث باعتراض الدكتور محجوب عبيد طه على مسألة ظهور الجسيمات تحت النووية من العدم (صفحة 91).

(7) سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود، (قضية العناية والمصادفة في الفكر الغربي المعاصر: دراسة نقدية في ضوء الإسلام)، مكتبة العبيكان الرياض.