الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم | العدد السابع
الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك




الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم

د. عبد الله أبو السعود بدر


كلية التربية - جامعة القاهرة


لقد تبارى العلماء والمفكرون في الكشف عن أوجه الإعجاز القرآني، فمنهم من توجه إلى لغته وأسلوبه وطريقة صياغته، ومنهم من توجه إلى منهج ترتيبه بعد أن نزل منجّما مفرّقا طيلة سنوات البعثة المشرفة، ومنهم من توجه إلى ما فيه من تشريعات وأحكام ثبت تناسبها وصلاحها لكل زمان ومكان على مدى الأجيال، ومنهم من توجه إلى ما تلألأ فيه من لمحات المعارف وإشارات العلوم المختلفة التي تم التوصل إليها أو التي تستشرف آفاقًا ما زالت مجهولة أمام العلماء والباحثين، ومنهم من توجه إلى سعته في الوفاء بحاجات البشرية من الهداية التامة وسياساته في الخير والإصلاح على كافة الأصعدة.. ظهرت المئات من الكتب والبحوث والمؤلفات التي تتناول وجوهًا من الإعجاز القرآني البياني والتشريعي والأخلاقي والعلمي والاجتماعي وغير ذلك.

يلتفت هذا البحث إلى وجه جديد من وجوه الإعجاز القرآني ألا وهو الإعجاز الصوتي، فلقد نزل القرآن الكريم نزولاً صوتيٌّا، ولم ينزل مدونًا في سطور أو مكتوبًا في كتاب، كما تم تبليغه أيضًا تبليغًا صوتيٌّا من لدن جبريل ـ عليه السلام ـ ملك الوحي الأمين إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إلى الناس، وما زالت طريقة القراءة والإقراء الشفوي هي الطريقة الوحيدة المتواترة في تبليغه وإسماعه وضبطه وإتقانه منذ لحظة نزوله حتى اليوم وإلى يوم القيامة ـ بإذن الله.

عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: (
إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فُزّع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق. فيقولون: الحق الحق
) رواه أبو داود في كتاب السنة.

يوضح هذا الحديث النبوي الشريف كيفية أخذ جبريل ـ عليه السلام ـ الوحي عن رب العالمين، والقرآن الكريم وحي، وفي هذا الحديث أن الله (
يتكلم
) بالوحي وأن أهل السماء يسمعون فيمكن القول إذن بأن جبريل ـ عليه السلام ـ تلقى القرآن الكريم عن الحق سبحانه وتعالى سماعًا.

وعلى نفس هذا المنهج الصوتي في الأداء والتلقي تم الوحي بالقرآن الكريم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد نزل جبريل ـ عليه السلام ـ بالقرآن الكريم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزولاً صوتيٌّا حيث قرأه عليه مباشرة، وسمعه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه وأخذه عنه سماعًا. وقد قرر الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة، وذلك في قوله ـ عز وجل: (
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
) القيامة ( 18 ) وفي قوله تبارك وتعالى: (
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى
) الأعلى ( 6 ). ففي هاتين الآيتين الكريمتين تصريح بأن ملك الوحي الأمين جبريل ـ عليه السلام ـ كان يقرأ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ينزل به القرآن الكريم، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسمع ما يقرأه عليه جبريل من القرآن الكريم، ويحفظه في صدره الشريف.

وهناك آيات أخرى كثيرة تثبت هذه الحقيقة في كيفية نزول القرآن الكريم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزولاً صوتيٌّا، وتلقيه له سماعًا من جبريل ـ عليه السلام ـ ومن هذه الآيات قوله تعالى: (
تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين
) البقرة ( 252 ) وقوله سبحانه: (
تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُون
) الجاثية ( 6 ) وقوله سبحانه: (
تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعالَمِينَ
) آل عمران (
108
) وقوله عز وجل: (
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
) آل عمران (
58
) وقوله سبحانه: (
طسم * تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون
) القصص ( 1 ـ 3 ) فقوله تعالى في هذه الآيات: (
نتلوها عليك
) أو (
نتلوه عليك
)، أو (
نتلو عليك
) ـ معناه: نتلوها عليك بواسطة جبريل ـ عليه السلام ـ أو (
ننزلها بقراءة جبريل عليك
) أو (
يتلوها جبريل ـ عليه السلام ـ عليك
)، وهكذا تتكشف وتتقرر طبيعة النزول الصوتي للقرآن الكريم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقرير لهذه الطبيعة الصوتية للوحي حين نزوله عليه متلوٌّا، وذلك عندما سئل عن كيفية الوحي، فعن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها: (
أن الحارث بن هشام ـ رضي الله عنه ـ سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فَيَفْصِم عني وقد وَعَيْت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول
) صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي.

ففي هذا الحديث الشريف يقرر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الوحي كان ينزل عليه متلوٌّا، ويتضح ذلك من قوله ـ صلى الله عليه وسلم: (
فأعي ما يقول
) وقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه: ( وقد وعيت عنه ما قال )، فأثبت حقيقة القول الصوتي في هاتين الحالتين اللتين كان الوحي ينزل عليهما.

وأما عن تبليغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن الكريم للعالمين ـ فقد كان تبليغا صوتيٌّا أيضًا، وذلك عن طريق تلاوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن على الناس بصوته الشريف ومن صدره الكريم وليس من مكتوب، ومن المعلوم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أُميٌّا لا يعرف الكتابة ولا القراءة من المكتوب، لذا تلقى القرآن الكريم سماعًا من جبريل ـ عليه السلام ـ وحفظه في صدره الشريف، وكان يقرؤه على الناس من صدره، ويبلغهم به تلاوة بلسانه، ولعلها أول كلمة نزلت من القرآن الكريم ـ وهي كلمة (
اقْرَأ
) تشير إلى هذا المعنى، وذلك في قوله تعالى: (
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَق
)، وكلمة (
اقْرَأ
) هي أول أمر إلهي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتكليف الدعوة والإبلاغ عن طريق قراءة ما يوحى إليه من القرآن الكريم على الناس. ولقد توالى هذا الأمر في الآيات القرآنية، ومن ذلك قوله تعالى: (
وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّك
) الكهف ( 27 )، وقوله سبحانه: (
اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَاب
) العنكبوت ( 45 ) وقوله عز وجل: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوح
) يونس ( 71 ) ، وقوله تبارك وتعالى: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيم
) الشعراء ( 69 )، وقوله عز وجل: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءَادَمَ بِالْحَق
) المائدة ( 27 ) وقوله سبحانه: (
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَـيْـنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا
) الأعراف ( 175 ).

وتصف الآيات طبيعة تبليغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن الكريم للناس عن طريق التلاوة، ومن ذلك قوله تعالى: (
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَـيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا
) الكهف ( 83 ) وقوله سبحانه: (
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم
) الأنعام (
151
).

ويقول الله عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبلغ القرآن الكريم تلاوة: ( هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ ) الجمعة (
2
) ويقول الله عز وجل: (
فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَات
) الطلاق ( 10 ـ 11 ).

وهكذا لم ينزل القرآن الكريم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدونًا في كتاب مسطور ولا مسطورًا في ألواح، وإنما نزل نزولاً صوتيٌّا، حمله جبريل ـ عليه السلام ـ ملك الوحي الأمين عن رب العالمين سماعًا، ثم نزل به على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتلاه عليه وأداه إليه أداءً صوتيٌّا قراءة، وتلقاه منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلقيًا مسموعًا، ثم تلاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدوره على الناس تلاوة صوتية من فمه الشريف يبلغهم به عن طريق هذه التلاوة فتلقوه منه بأسماعهم، وحفظوه في صدورهم، ومنهم كتبة الوحي الذين كتبوه ودونوه في العُسُب واللِّخاف والرِّقاع وغير ذلك.

والخلاصة أن نزول القرآن الكريم كان نزولاً صوتيٌّا، وكان وحيه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحيًا صوتيٌّا، ثم كان تبليغه إلى الناس تبليغًا صوتيٌّا أيضًا، هكذا شاءت إرادة الله العلية، واقتضت حكمته البالغة.

ويحاول هذا البحث أن يتلمس بعض أوجه هذه الحكمة الإلهية البالغة من تنزيل القرآن الكريم تنزيلاً صوتيٌّا، وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتبليغه للناس عن طريق التلاوة الصوتية.

إن هذه الأوجه ـ والله تعالى أعلم ـ تتعلق بالمعجزة القرآنية نفسها، تلك المعجزة الإلهية الخالدة التي تحدى الله سبحانه بها الإنس والجن فعجزوا أمامها صاغرين.

إن الله ـ عز وجل ـ يعطي رسله وأنبياءه معجزات عديدة، ففي العصور التي يفقد فيها ضمير الإنسان طريق الحق والخير والصلاح، ويعم الظلم الأرض ويستشري فيها الفساد، يتفضل الله برحمته التي كتبها على نفسه ووسعت كل شيء، فيرسل من يصطفي من عباده الأطهار برسالات منه إلى الناس ليجمعهم بعد التشتت على عقيدة التوحيد، وعلى إخلاص العبادة له وحده، ويهديهم إلى الصراط المستقيم الذي تسير عليه حياتهم هادئة مطمئنة نحو الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.

ولكي يظهر الله تعالى للناس صدق رسله وأنبيائه، ويثبت صدق ما أرسلهم به إلى الناس، فإنه يؤيدهم بمعجزة من عنده، خارقة لعادته في خلقه من سنن الكون وإيجاد الكائنات وربط الأسباب بمسبباتها. وسواء أكانت هذه المعجزة حسية أم معنوية، قولاً أم فعلاً أم تركًا، فإنها تختلف عن كافة صور التحايل والخداع البشري، من سحر أو شعوذة، أو استدراج أو اختراع، أو معونة أو كرامة أو إهانة أو غير ذلك بل يجريها الله تعالى بحوله وقدرته على أيدي رسله وأنبيائه فتصدقهم، وتثبت أن ما جاءوا به الحق، وأنه من عند الله، وتعجز أمامها كل من تسول له نفسه من المنكرين والمعاندين أن يتحداها، أو يزعم أن يأتي بمثلها.

ولقد اختلفت معجزات الرسل والأنبياء وتنوعت، فخرج إبراهيم ـ عليه السلام ـ من النار حيٌّا بعد أن ألقاه كفار قومه فيها، وكانت عليه بردًا وسلامًا بأمر الله. وكانت لموسى ـ عليه السلام ـ عصاه التي فلقت البحر والتي تحولت إلى حية تسعى، وغير ذلك من المعجزات. وكان عيسى ـ عليه السلام ـ يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، ويصنع نماذج طينية من الطيور فتطير بإذن الله، وكان الحجر والشجر يسلم على رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وسبح الحصى في كفه، وحنّ الجذع إليه، وانشق القمر، وشهد الضب أمامه، ورد بيده عين قتادة، وأسري به إلى بيت المقدس وعرج به في السماوات السبع حتى بلغ سدرة المنتهى، وغير ذلك كثير. إلا أن أعظم معجزة إلهية على الإطلاق أيد بها الله تعالى نبيٌّا من أنبيائه أو رسولاً من رسله هي معجزة القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء والمرسلين أشرف الخلق أجمعين، وذلك لأن معجزة القرآن تختلف اختلافًا شديدًا عن باقي معجزات رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تختلف أيضًا عن كافة معجزات الأنبياء السابقين جميعها، وتتميز عنها بميزات أساسية، منها:

الحفظ الإلهي، والخلود الأبدي، والمحتوى المعجز، والصياغة العلوية.

فأما عن الحفظ الإلهي؛ فلقد أعلن الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا الكتاب الكريم أنه المتكفل بحفظه وصونه، وذلك في قوله تعالى: (
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون
) الحجر (
9
) هذه الحماية الإلهية احتفظت بالنص الأصلي للقرآن الكريم كما نزل من عند الله صحيحًا ومضبوطًا، وجعلته غير قابل لأن يعتريه فساد أو يأتيه باطل، أو يمسه عبث أو يتطرق إليك شك، وذلك بخلاف الكتب السماوية السابقة التي وكل الله ـ سبحانه وتعالى ـ مهمة حفظها إلى عباده، قال تعالى: (
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآء
) المائدة (
44
)، أي استودعوه وائتمنوا عليه وكانت النتيجة أن امتدت إليه يد التغيير والتبديل والتحريف، كما ثبت ذلك بنص القرآن الكريم، وبنظر أغلب الباحثين من أهل هذه الكتب أنفسهم ومن غيرهم.

أما عن الخلود الأبدي؛ فإن الحفظ الإلهي للقرآن الكريم ورد في الآية السابقة مطلقًا دون قيد يحدده أو شرط، الأمر الذي ضمن لمعجزة القرآن الكريم البقاء فلا تفنى، والديمومة فلا تنقطع، والحياة المستمرة فلا تموت، والخلود فلا تزول، وذلك بخلاف المعجزات السماوية السابقة، التي كانت سريعة خاطفة مؤقتة، لا تبدأ إلا لتنتهي لساعتها، ولا تبقى إلا لوقتها، وتموت بموت النبي الذي أجراها الله على يديه، فلا يبقى منها أثر، بل يعتري الشك ذكرها وهي في كتب محرفة. ويظل القرآن الكريم وحده هو الذي يشهد لها بحق، ويتحدث عنها بصدق، ويجعل لها كيانًا وقيمة لا تستمدها إلا منه.

وأما عن المحتوى المعجز؛ فإن محتوى القرآن الكريم تشريعي في المقام الأول، وقد أثارت مظاهر الإعجاز في هذا التشريع عقل كل من نظر فيه وقام بدراسته، وذلك على كافة المستويات الثلاثة الأساسية التي يدور عليها، وهي الاعتقادية والأخلاقية والعملية ( بشقيها: العبادات، والمعاملات ) إذ تتعانق أصول هذه المستويات وفروعها في نظام بديع، يأخذ بعضها فيه بأعناق بعض، وتمتزج فيه ـ بانسجام فريد ـ العقيدة بالروح والعقل، والفطرة بالحكمة والمصلحة، والقانون بالأخلاق والعدل، والنية بالتوجه والسلوك. وذلك خلافًا لمحتويات الكتب السابقة التي خلا بعضها من التشريع واقتصر على مواجيد صوفية، ومنها ما جاء بتشريع محدود ومقصور على قوم معينين في زمان معين، فلا يستوعب كل متطلبات التشريع التي تلزم الإنسان في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة كما لبَّاها القرآن الكريم بعظمة وسمو.

وأما عن الصياغة العلوية فلقد صيغ المحتوى القرآني من نفس الحروف والكلمات العربية التي لا يجهلها العرب، ولكن طريقة هذه الصياغة ومنهجها والنظام الذي تسير بمقتضاه، كل ذلك يختلف عن ما تعوده العرب من طرائق صياغة كلامهم وآدابهم الشرعية والنثرية، كما يختلف أيضًا عن الاستخدام البشري لأي لغة أخرى غير العربية، حتى على المستوى الأدبي أو الفني.

وذلك لأن صياغة القرآن الكريم لها أبعاد متعددة تتناظر فيما بينها، ويعلو الجمع بينها في نظام واحد متسق خال من التناقض أو الاضطراب. فالصياغة القرآنية سلاسل صوتية متتابعة في قطرات نغمية، تتناسق وحداتها وفق منهج خاص مكونة صيغًا وألفاظًا تحتل مواقع معينة منتقاة داخل تشكيلات من الجمل والعبارات، وهذه العناصر الصوتية والصرفية من كلمات وجمل لا يستقل بعضها عن بعض في السياق، بل تتآلف فيما بينها، وتتآزر علاقاتها الإيقاعية النغمية والإيحائية المعنوية المتبادلة، وتنصهر جميعها في بوتقة واحدة، وتتفاعل في نشاط خلاق تركيبي وتصويري معًا، يقوم عليها ويستمد منها خصائصه وسعته وعمقه، بحيث يكشف كل عنصر منها عن قيمة العنصر الآخر، ويفجر طاقاته ويدعم أهميته، ويفسر دوره في صرح البنية الفكرية وفي إقامة الموقف الفكري، مما يسفر في النهاية عن وجه بديع من التشكيل اللغوي الجمالي، يصطبغ فيه المعنى المعجمي بمزيج فريد من ألوان فنية تجعله قادرًا على تخطي وظيفته الوضعية، إلى خدمة مقامات نفسية واجتماعية عديدة، وإلى تجسيد الخبرات الحسية والمعنوية التي تجمع بين البعدين الزمانيين الماضي والمستقبلي، وذلك من خلال تقديم تطبيقات حية، تكشف عن بنية الموقف الفكري، القادر على الانسجام مع كل التغيرات الدلالية التي تطرأ على اللغة تبعًا لتغير حاجات أفرادها ومتطلبات أزمانهم التي يعيشون فيها، مما يمنح النص القدرة على الاستمرارية وعلى تغطية آماد زمنية عريضة ومتجددة، ويضمن ديمومة الجمع في وقت واحد بين التعبير عن واقع الآن، وتخليد حقيقة الأبد، وذلك في موازاة رمزية لبنية التشكيل الجمالي النابضة بدلالات الموقف الفكري. وهذا كله يزلزل تقاليد التشكيل اللغوي البشري ومنطق توصيله، ويدل على أن هذه الصياغة القرآنية ليست من قبل البشر، ولا يقدر على محاكتها أحد وأنها صياغة علوية صدرت عن قوة عليمة حكيمة مبدعة قاهرة، وهي بذلك تتحدى بعظمتها وروعتها الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها، أو حتى بشيء منها، وذلك بخلاف الكتب السماوية السابقة التي امتدت إليها أيدي العبث والفساد بالتغيير والتحريف، فمسخت نصوصها الأصلية وشوهتها، فاستفحل في لغتها الخطأ وفي أفكارها التناقض، ودب في كيانها الضعف والتصدع، واعتراها الشك والاتهام، في حين ظلت معجزة القرآن الكريم في صياغته المبدعة باقية خالدة تجمع بين التشكيل الجمالي من واقع لغوي موجود ومعروف ومستعمل، وبين التوصيل الحي المباشر الذي يرضي الفطرة ويقنع العقل، كما تجمع أيضًا بين إثارة الفكر في المحتوى ومنطقه، وبين إبهار الإبداع الفني والتخيلي.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن الكريم باللغة العربية لفظًا ومعنى، فإنه تعالى أراد لتوصيل رسالته إلى الناس أرقى وسيلة اتصال عرفتها البشرية وهي أهم وأقوى ما يتميز به عن سائر أعضاء المملكة الحيوانية ـ ألا وهي اللغة ـ كما أنه ـ جل جلاله ـ قد اختار من مظاهر اللغة ومكوناتها أهم وأقوى ما يحقق الغرض المطلوب من دقة وضبط وإتقان من حيث توصيل ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه وتبليغها وإفهامها ـ ألا وهو الصوت المباشر ـ فأنزل القرآن الكريم نزولاً صوتيٌّا متلوٌّا، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتلوه على الناس بلسانه الشريف. وظل النص القرآني ـ منذ اللحظة الأولى لنزوله- يتردد على ألسنة الأجيال وينتقل من الصدور إلى الصدور غضٌّا على نفس هيئته يوم نزل أول مرة، وبذا تتحقق تجليات المعجزة القرآنية في خلود النص المقدس وحماية مبناه ومعناه من التحريف والتغيير، ويكون القرآن الكريم بحق مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليه، ونكون نحن بحق شهداء على الناس، ويكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهيدًا علينا جميعًا، وذلك لأن الأداء الصوتي الصحيح الدقيق هو الوسيلة الوحيدة المثلى التي تضمن تمامًا توصيل الفكر بمنتهى الدقة والضبط والإحكام، والسبب في ذلك أن اللغة أصلاً ظاهرة صوتية، وإذا كانت هناك بعض صور الاتصال التي تتم بين أفراد المجتمعات البشرية بطرق أخرى شتى تستخدم فيها كل الحواس البشرية من لمس أو ذوق أو شم أو سمع، أو إذا كانت بعض هذه الطرق غنية ـ كالتعبيرات والإشارات الجسمانية مثلاً ـ إلا أن الصوت المنطوق يعد وسيلة الاتصال المثلى، وما هذه الطرق جميعها إلا مجرد بدائل ثانوية له. وقد جاء في لسان العرب أن اللغة: اللسن، أي الصوت مطلقًا، وحد اللغة ـ كما يقول ابن جني (
ت 382هـ
): ( أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )، وما الكلمة ـ كما جاء في قاموس Webester ـ إلا صوتاً معينًا أو بالأحرى سلسلة من أصوات معينة ترمز إلى شيء ما وتنقل إلى الآخرين معنى. إذن فالصوت اللغوي هو اللبنة الأولى والأساسية في بناء أي لغة، لذلك يرتبط الفكر ذاته بالصوت اللغوي على نحو أساسي خاص، لأنه الذي يخرجه من السكون أو الخمود إلى الحياة والحركة، ويمنحه كيانًا وقيمة وقدرة على التأثير والتفاعل. وفي ذلك يقول إخوان الصفا: ( كان النطق اللفظي أمرًا جسمانيٌّا ظاهرًا وجليٌّا محسوسًا، وضع بين الناس لكي ما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه والمخاطبين له ).

لهذه المكانة الأولية الأساسية التي يحتلها الصوت في البناء اللغوي، ولأهميته العظيمة التي لا تدانيها أهمية أي لبنة أخرى في هذا البناء ـ نزل القرآن الكريم نزولاً صوتيٌّا متلوٌّا، أي على أصل الظاهرة اللغوية.

ولكن لماذا نزل القرآن الكريم نزولاً صوتيٌّا ولم ينزل مكتوبًا في صحف أو مسطورًا في ألواح؟ إن السبب في ذلك يرجع إلى أن الصوت اللغوي هو النظام المعياري الأول والأساسي في اللغة، أما الكتابة فهي النظام المعياري الثانوي التالي له، أو بعبارة أخرى: الكتابة نموذج ثانوي مرئي لظاهرة مسموعة هي النظام الصوتي الأول للغة، ولذلك كانت الأصوات اللغوية أول مظاهر اللغة إنتاجًا وظهورًا وأسبق في الوجود على رموزها المنقوشة ( Graphically )، فقد استخدم الإنسان اللغة منذ آلاف السنين استخدامًا صوتيٌّا قبل أن يتوصل إلى اكتشاف أو ابتكار وسيلة لكتابتها تحولها من أثر سمعي في الأذن إلى صورة مرئية بالعين، ومن بعدها الزماني المؤقت سريع التلاشي إلى بعد مكاني ثابت ودائم.

ولكن حتى يومنا هذا لا تزال هناك مئات من اللغات المستخدمة تنطق ولا تكتب، فاللغة المنطوقة توجد دون كتابة على الإطلاق، في حين لا توجد كتابة دون أصل منطوق لها، والكلمات إنما تتأسس في الكلام المنطوق أولاً، وحروفها المرسومة ترتبط حتمًا بعالم الصوت الذي هو أصل اللغة كي تعطيها معانيها، ففي النص المكتوب تأخذ الكلمات معانيها من إشارة الرمز البصري إلى عالم الصوت، أي أن قراءة النص تعني تحويله إلى أصوات، والتعبير المعروف الذي يستخدم في معظم آداب العالم مثل: ( الكتاب يقول ) أو: ( ويقول المؤلف ) يشير ببساطة وحسم إلى هذه الحقيقة، فقد وضعت هذه الحروف الخطية كسمات يستدل بها على الحروف اللفظية ـ كما يقول إخوان الصفا ـ أي أن الكلمات المرسومة على الصفحة المكتوبة مجرد علامات تدل على كلمات منطوقة، سواء أنطقت حقٌّا أم نطقت في الخيال بشكل مباشر أو غير مباشر، فالكلمات المكتوبة تشير إلى الأصوات ولا يمكن أن يكون لها معنى إلا إذا أمكن وصلها ظاهريٌّا أو في الذهن بالأصوات التي تحولها إلى معنى، لذلك فإن الإنسان حين يقرأ لا يقرأ صورة الحروف المكتوبة حرفًا حرفًا، بل ينطلق لسانه بما يكمن في وعيه من الذكرى الصوتية لهذه الحروف.

أما الكتابة فما هي إلا نظام أولي أساسي سابق في الوجود هو الصوت أو اللغة المنطوقة، وبالتالي لا يمكن دراسة اللغة وما تحمله وتعبر به عن فكر دراسة عملية صحيحة مضبوطة بالاعتماد على صورتها المكتوبة فقط، لأنه لا يمكن دراسة ظاهرية ثانوية دون دراسة أساسها الأولي، وكذلك لا يمكن النظر إلى النظام المعياري الأول بوصفه انحرافًا عن النظام المعياري الثانوي، بل الصحيح أن النظام المعياري الثانوي فيه انحراف شديد وواضح عن النظام المعياري الأول فحين اخترعت الكتابة لم تستطع أن تغطي كل اللغات، إذ توجد ـ كما أشرنا آنفًا ـ مئات اللغات حتى يومنا هذا تنطق ولا تكتب، كما أن الكتابة لم تنجح نجاحًا كاملاً في الدلالة على الأصوات اللغوية بدقة، ولم تستطع أن تعبر عن واقع أصوات اللغات المنطوقة تعبيرًا حقيقيٌّا تامٌّا، ولم تقدر على الوفاء بمتطلباتها، وعجزت عن تمثيلها كلها، واقتصرت على تمثيل بعضها فقط. وفي هذه المسألة يقول أنطوان ماييه: ( إن ) معظم الاختلافات في النطق التي تتميز بها الجهات المختلفة والطبقات الاجتماعية المتباينة لا تظهر في الكتابة.. ( و ) الكتابة لا تملك ما يملكه المتملكون من مناسبة وحركات ونغمة في الصوت توضح الكلام الملفوظ.. (
ونحن
) نكون فكرة خاطئة عن لغة ملفوظة عندما نحكم عليها بصيغتها المكتوبة فقط.. فاللغة المكتوبة كثيرًا ما تكون لغة خاصة لا علاقة لها باللغة المنطوقة، لأن الرموز الخطية المكتوبة في معظم لغات شعوب العالم المختلفة عاجزة عن تمثيل إمكانياتها الصوتية بصورة كاملة سواء المستخدمة منها بالفعل أو التي يمكن استخدامها، كما أنها عاجزة عن التعبير الدقيق عن الفروق الصوتية الدقيقة بين الأصوات، وهي غير قادرة على إيجاد رموز خطية للصفات الصوتية المتعددة للصوت الأصلي الذي قد تختلف صور نطقه عند الناطقين به تبعًا لاختلاف لهجاتهم المحلية، ولعل قضية الإعراب في اللغة العربية مثلاً تأثرت في بعض جوانبها من عدم وجود ( حروف ) خطية للحركات القصيرة، كما أن الكتابة تتغير صورتها تبعًا لقوانين التطور اللغوي المعروفة من عصر إلى عصر ومن بيئة لغوية إلى بيئة أخرى.

من أجل القضاء على هذه المشكلة جهد علماء اللغة منذ القرن السادس عشر في ابتكار رموز خطية تكون قادرة على تمثيل الأصوات الواقعية الدقيقة للنطق اللغوي البشري بشكله الطبيعي التام، وتتابعت المحاولات في ذلك، ولكن الأبجديات الصوتية التي تم التوصل إليها لها عيوب عديدة، منها غرابة رموزها وتعقيدها، وكبر حجمها، والخلاف في رسمها، وعدم تمثيلها الدقيق لكل إمكانيات النطق البشري بصورة تامة، وللأصوات الحية والأصوات الميتة، ولصفات الأصوات، وظلالها، والمشكلات الخاصة بصوتيات كل لغة.

هناك إذن فرق كبير بين الحدث اللغوي المنطوق وصورته المكتوبة حتى في الأبجديات المخترعة، لذلك كان من الأهمية بمكان أن ينزل القرآن الكريم نزولاً صوتيٌّا على أصل الظاهرة اللغوية، فالسيطرة على النظام الصوتي للغة هي البداية الأساسية المتينة لفهم اللغة وامتلاك ناصيتها، وذلك لضمان وصول معناه بدقة إلى الناس، ( والحروف اللفظية وضعية سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل )، وكان هذا الضمان أعظم الدليل على تحقيق الوعد الإلهي بحفظ القرآن الكريم وصونه من التحريف والتبديل والضياع، وتخليده صحيحًا مضبوطًا إلى الأبد، فلقد قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتبليغ القرآن للناس تبليغًا صوتيٌّا كما سمعه من جبريل ـ عليه السلام ـ ثم حفظه الناس عن نبيهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعرضوه عليه بألسنتهم كما سمعوه منه، فأقرهم وأجازهم، وما زال هذا المنهج الصوتي الشفوي في حفظ القرآن الكريم وعرضه وانتقاله عبر صدور الأجيال جيلاً يعد جيل مستمرٌّا حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة ـ بإذن الله تعالى ـ وهو أساس تواتر القرآن، ولا شك أن هذه هي الطريقة المثلى المأمونة لتبليغ القرآن الكريم كما أنزل، فهي أداء وتَلقٍّ من صدر إلى صدر، واتصال القلوب لا يقدر على قطعه شيء، حتى الموت نفسه لا يقدر على نزع القرآن من القلوب، إذ إن القرآن المحفوظ في القلوب يصاحب حافظه طيلة حياته في الدنيا، حتى يؤديه إلى الله تعالى في الآخرة، وذلك بخلاف ما لو كان القرآن الكريم قد نزل مكتوبًا. ويلحظ ذلك في العلم القرآني المختص بالجانب الخطي أو الرمز المكتوب للأصوات القرآنية، وهو علم الرسم، فهناك فروق واضحة بين الرمز المرسوم ونطقه الصوتي.

إذن من أجل تحقيق الوعد الإلهي بحفظ القرآن الكريم وصونه إلى الأبد مبنًى ومعنًى من التحريف والتغيير، شاءت إرادة الله العلية واقتضت حكمته البالغة أن ينزل القرآن الكريم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنزيلاً صوتيٌّا متلوٌّا، يقرؤه عليه جبريل ـ عليه السلام ـ حرفًا حرفًا وكلمة كلمة وآية آية، فيسمعها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحرص ودقة لدرجة أنه كان يحرك لسانه مرددًا وراء جبريل ـ عليه السلام ـ ما يسمعه منه من القرآن الكريم، حتى نهاه الله سبحانه وتعالى عن ذلك، وطمأنه إلى أنه سيجمع له القرآن في صدره الشريف، وأنه سيقرئه إياه فلا ينسى شيئًا منه أبدًا، قال تعالى: (
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَـيْـنَا بَـيَانَه
) القيامة (
16 ـ 19
).

لقد ضمن النزول الصوتي للقرآن الكريم صونه وحمايته من التبديل والتحريف، كما ضمن تبليغه الصوتي المتواتر منذ اللحظة الأولى للنزول تخليده إلى الأبد على نفس هيئة تنزيله يوم أنزل من لدن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبذلك كان للقرآن الكريم أثره العميق في نفس كل من يستمع له، لأنه فعلاً كلام الله تعالى حقٌّا وصدقًا الذي لم يتطرق إليه أي عبث، ولم تَشُبْهُ أية شائبة، ولذا فإن له قوة جبارة مستمدة من قوة كلام الله العلي القهّار، ولقد ضرب الله تعالى المثل لهذه القوة الجبارة لتأثير القرآن الكريم، وذلك في قــوله ســــبحانه: (
لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
) ( سورة الحشر:21 ).