سعيد النورسي .. ومضات بين العلم والإيمان | العدد السادس
سعيد النورسي .. ومضات بين العلم والإيمان
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة - مكة المكرمة

سعيد النورسي .. ومضات بين العلم والإيمان

وجدي خاشقجي

لما كانت علة التكريم الإلهي للإنسان عائدة إلى القدرة العقلية التي خلقها الله تعالى فيه؛ فإن الإنسان تناول عند استخدامه لتلك القدرة ـ لبناء تصوراته وفلسفته الخاصة ـ قضايا ثلاثًا هي: الوجود, والمعرفة, والقيم.

ومن ثم نشط في تفاعلاته الحضارية الحياتية في ضوئها ليحافظ على ذلك التكريم الممنوح له من خالقه وليبرز تفرده عن سائر المخلوقات.

ولما كان الحكم على تلك التفاعلات الناشئة عنه بالحق أو الباطل أو بالحسن أو القبح تحتاج إلى معيار صحيح دقيق؛ فإن واضع ذلك المعيار لابد أن يكون شيئا آخر غير الإنسان نفسه لكونه صاحب تلك التفاعلات والممارسات, وبالضرورة يجب أن يكون صاحب الحكم عليها هو خالق الإنسان ـ الذي أنعم عليه بنعمتي الخلق والإيجاد والهداية والإرشاد ـ لأن صانع الصنعة أعلم وأخبر بما يصلح شؤون صنعته. ولذا فمعيار الحكم على تلك الأنشطة الإنسانية إنما هو مدى قربها وبعدها من هداية الخالق وإرشاده, فكلما كان امتثالها أكمل كان صوابها أكبر, والعكس كذلك.

وبالتأمل في مسيرة الحضارة الإسلامية نجد أنها شيدت بنيانها على دعامتين اثنتين هما: الإيمان, والعمل الصالح ، من الدراسات الحضارية القديمة التي أكدت على هاتين الدعامتين ويحسن الرجوع إليها: أبو الأعلى المودودي, الحضارة الإسلامية أسسها ومبادئها, ط2 , بيروت. لبنان: دار العربية1390هـ -1970م.

منطلقة في ذلك من مرجعيتها في تحديد معالم فلسفتها وتصوراتها وهي المذهبية الإسلامية التي دانت لها وامتثلت لخطابها الإلهي الذي يقرن دائما بين الإيمان والعمل الصالح قال تعالى:(الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم, والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم, ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم)(محمد: 1 - 3)

 

ولما تباينت الفلسفات والتصورات البشرية فيما بينها بسبب اختلاف منطلقاتها ومرجعياتها؛ والتي منها ما كان وضعيًّا بشريًّا قاصـرًا لقصر واضعه, ومنها الديني والذي منه الصحيح الموثوق به ومنه الباطل المحرف المشكوك في ثبوته؛ لما تباينت تلك الفلسفات البشرية تباينت بالضرورة التفاعلات والممارسات الحضارية لأصحابها, ومن ثم اشتد الصراع والتدافع فيما بينها.

أما الحضارة الإسلامية فقد واجهت أشد أنواع التدافع والصراع من خلال الاختراقات التي نالت جميع أنظمتها الحضارية المتعددة ـ والتي هي ثمرة عملها الصالح ـ النظام السياسي, والتربوي, والاقتصادي, والإعلامي.. إلخ اخترقت خصوصيتها الحضارية (ثقافتها) بالعمل على تشويه فلسفتها: في الوجود, والمعرفة, والقيم, والمبنية على عقيدة الإيمان بالله تعالى, بل وصل حقد الصراع والبطش ـ قديمًا وحديثًا ـ إلى درجة المحو باستئصال كافة مواردها البشرية.


ونتيجة لذلك دعت واجبات التدافع والصراع مجددي أمة الإسلام للعمل في شتى الميادين والجهات لحماية دعامتي الحضارة الإسلامية ـ الإيمان والعمل الصالح - وما انبثق عنها من فكر وممارسات.

وممن وفقه الله تعالى واستعمله للذود عن حياض الأمة الإمام الرباني سعيد النورسي - رحمه الله ـ تعالى الذي عاش إحدى أشد فترات الصراع وأعنفها بين الأمة الإسلامية وأعدائها ( 1294 - 1379هـ ) حيث أسقطوا أحد أبرز أعمالها الصالحة وهو نظامها السياسي المتمثل في الخلافة الإسلامية, كما استهدفوا إيمانها بالله تعالى - المرتكز الرئيسي لفلسفتها - ليسلبوه منها بإثارتهم للشهوات, وإقامتهم للشبهات وسبيلهم إلى تحقيق ذلك نشر المعرفة المادية المرتكزة على الإلحاد القائم على الإيمان بالأسباب دون الإيمان بالخالق مسببها ومجريها, ولذلك حمل الإمام النورسي على عاتقه مسؤولية حماية المعرفة الإيمانية المتكاملة - والتي اتخذت من العلم طريقا للإيمان بخالق الأسباب ومجريها - من خلال منهج متكامل واضح المعالم, والذي بين الدباغ ملامحه بقوله:

وهذه المعرفة الإيمانية التي رسم ( النورسي ) ملامحها, وخط حدودها منبثقة من فهمه لقوله تعالى:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت: 52 ) فهو يرى في ضوء هذه الآية العظيمة أن ما من معرفة مما تتبادلها العقول فيما بينها إلا وترجع في أصولها الأولى إلى واحدة من المعارف الثلاث الآتية:

1_ معرفة كونية تشمل علوم ما في السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

2- معرفة إنسانية تشمل الكينونة الإنسانية وكل ما يتعلق بالإنسان فردًا ونوعا ظاهرا وباطنا.

3- معرفة إلهية ترتبط بوجود الله تعالى وبربوبيته وشؤونه في خلقه.

وهذه المعارف الثلاث متلازمة يلازم بعضها بعضا, ويسند بعضها بعضا, ويدل بعضها على بعض, وهي في تعاشق دائم لا ينقطع, فليس ثمة معرفة متفردة ومستقلة ومنعزلة في هذا العالم ( أديب إبراهيم الدباغ, مطارحات في المعرفة الإيمانية عند النورسي, ط1, القاهرة: مركز الكتاب للنشر, 1417هـ - 1997م, ص 41 ).

لقد كان غرض النورسي - رحمه الله تعالى ـ من تحصيل المعرفة الإيمانية هو معرفة الله سبحانه وتعالى والسعادة برضاه, ومعرفة الله تعالى تتحقق من خلال براهين عدة, عدد كثيرا منها في رسائله ومؤلفاته, وقد ذكر بعضها بقوله:

إن مقصودنا ومطلوبنا هو:(الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) ( البقرة: 255 ) فمن بين براهينه التي لا تعد نورد هنا أربعة منها:

البرهان الأول: هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم.

البرهان الثاني : هذا الكون وهذا الإنسان الأكبر, ذلك الكتاب الكبير المنظور.

البرهان الثالث: هو القرآن الكريم, ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه وهو الكلام المقدس.

البرهان الرابع: الوجدان الحي, والفطرة الشاعرة, الذي يمثل البرزخ ونقطة اتصال عالمي الغيب والشهادة. فالفطرة الشاعرة أو الوجدان نافذة إلى العقل ينشر منها شعاع التوحيد (بديع الزمان سعيد النورسي, المثنوي العربي النوري, ط2, استانبول ـ تركيا, دار سوزلر للنشر1414هـ ـ1994م ص 421

ولكي يحقق النورسي آماله في تكوين المعرفة الإيمانية حرص على أن يكون القرآن الكريم محورها - وقد ربط تلاميذه به فعلا أشد ارتباط - ذلك لأنه يستمد منه الطريق إلى معرفة شريعة الله تعالى والتي هي في نظره شريعتان بينها بقوله:

والشريعة الإلهية اثنتان:

الشريعة الآتية من صفة الكلام التي تنظم أفعال العباد الاختيارية.

الشريعة الآتية من صفة الإرادة التي تسمى بالأوامر التكوينية والشريعة الفطرية وهي محصلة قوانين عادات الله الجارية في الكون.

فكما أن الشريعة الأولى عبارة عن قوانين معقولة, فإن الشريعة الثانية أيضا عبارة عن مجموع القوانين الاعتبارية, والتي تسمى خطأً بالطبيعة, فهذه القوانين لا تملك التأثير الحقيقي ولا الإيجاد, اللذان هما من خواص القدرة الإلهية»( بديع الزمان سعيد النورسي, المثنوي العربي النوري, مرجع سابق, ص 426

أما البرهان الثاني على التوحيد وهو الكون المادي فيقول عنه ـ رحمه الله تعالى: «إن الإعجاز الباهر الظاهر في النظام والتناسق والاطراد المشاهد في كتاب الكون الكبير ـ وهو برهاننا الثاني على التوحيد ـ يظهر بوضوح تام كالشمس الساطعة أن الكون وما فيه ليس إلا آثار قدرة مطلقة وعلم لا يتناهى وإرادة أزلية » (بديع الزمان سعيد النورسي, المثنوي العربي النوري, مرجع سابق, ص426.

أما البرهان الثالث على التوحيد وهو القرآن الكريم فقد استفرغ النورسي ـ رحمه الله تعالى ـ في دراسة خطابه وتأمل طريقه في الاستدلال ليقف على الغرض من ذكره لكثير من الموضوعات لاسيما وأن الكون هو أحد الموضوعات الرئيسية فيه, كما أن القدرة على اكتشاف قوانينه المادية كان أحد أسباب تفاخر واستعلاء الحضارة الغربية على غيرها, لذا عمد النورسي إلى تدبر أسلوب القرآن الكريم في عرضه لمفردات الكون ليقف على العلة من ذكرها, وليكون هاديه ومرشده إلى التفكر والتأمل السليم فيه؛ فهو يرى أن الكون هو كتاب الله المنظور الذي يحوي دلائل وبراهين الإيمان بالله تعالى فاطره, نلحظ ذلك في كلامه عن طريقة القرآن في الحديث عن الشمس حيث يقول:

"إن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطرادا, للاستدلال على ذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى, أي يفهم معاني هذا الكتاب, كتاب الكون العظيم كي يعرف خالقه.

أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها, فضلا عن أنه يخاطب الجمهور. أما علم الحكمة (الفلسفة) فينظر إلى الموجودات لنفسها, ويخاطب أهل العلم.

وعلى هذا, فما دام القرآن يستخدم الموجودات دليلا وبرهانا, فمن شرط الدليل أن يكون ظاهرا وأظهر من النتيجة أمام نظر الجمهور.

ثم إن القرآن مادام مرشدا فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام, ومراعاة حسن العامة ومؤانسة فكر الجمهور, لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة, ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة, فأبلغ الخطاب معهم والإرشاد أن يكون ظاهرا بسيطا سهلا لا يعجزهم, وجيزا لا يملهم, مجملا فيما لا يلزم تفصيله لهم, ويضرب بالأمثال لتقريب ما دق من الأمور إلى فهمهم.

فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغة الإرشاد أن لا يذكر ما يوقع الأكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري, وأن لا يغير بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم, وأن يهمل أو يجمل مالا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.

فمثلا: يبحث عن الشمس لا للشمس, ولا عن ماهيتها, بل لمن نوَّرها وجعلها سراجا, وعن وظيفتها بصيرورتها محورا لانتظام الصنعة ومركزا لنظام الخلقة, وما الانتظام والنظام إلا مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرفنا القرآن بإراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم, فيقول:(والشمس تجري )(يس: 38 ) ويفهم بها وينبه إلى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء وفي لفت النظر إليها تنبيه السامع إلى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته.