رب المشرقين ورب المغربين | العدد التاسع عشر
رب المشرقين ورب المغربين
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



خالد بن حمزة مدني

 يوجد في القرآن الكريم عدد كبير من الآيات الكونية سخرت لتكون أولاً برهانًا لإثبات وجود الخالق الواحد الأحد وإقامة الحجة على ذلك من خلال التفسير العلمي الذي لا ينكره منصف ولا يرفضه عقل رشيد، وثانيًا هداية للعلماء في أبحاثهم تقودهم إلى النتائج الصحيحة، والحقيقة الكونية خدمة للبشرية جمعاء؛ تنور طريقهم، وتخرجهم من الظلمات إلى النور. وعملية الشروق والغروب التي يعيشها الإنسان يوميٌّا فوق هذه الأرض ـ واحدة من هذه الحقائق الكونية حيث قال المولى تبارك وتعالى:


(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا) الشعراء (27)

(فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) المعارج (40)

(فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) الرحمن (15:14).

(حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)  الزخرف (37)


لا شك في أن ذكر المشرق والمغرب في صيغه المختلفة يعطي باعثًا للبحث، ورغبة في التفكير، وحافزًا للتعمق والتأمل، إنه مثل حي في بلاغة الأسلوب القرآني ودقة المعاني. وإذا تعمقنا في معاني هذه الآيات بَدَا لنا بوضوح أنها تشير أولاً إلى عظمة الخالق، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ موجود حيث الشروق وحيث الغروب بربوبيته وسلطانه ونوره وهدايته، وثانيًا إلى حقائق كونية متسلسلة لها وزنها العلمي الضخم وأهميتها الكبرى في معرفة نواميس هذا الكون المنظور، سخرت لهداية الإنسان في بحثه العلمي التجريبي والنظري كي لا يضل عن الحقيقة الكونية مصداقًا لقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران (103).


ففي سورة الشعراء جاء ذكر المشرق والمغرب في صيغة المفرد، وهذا ما نلاحظه في كل لحظة، فأينما كنا وحيثما وجدنا رأينا للشمس مشرقًا ومغربًا، وبما أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس دون توقف فهناك مشارق ومغارب متتالية في الزمان والمكان. وهذا ما نفهمه من خلال الآية الكريمة التي جاءت في صيغة الجمع في سورة المعارج. لكن السؤال المطروح هو: ما هو الفهم الصحيح لهذا الذكر الذي جاء في صيغة المثنى في سورة الرحمن؟


لقد فسر بعض المفسرين هذه الآية بمشرقي ومغربي الشمس في الشتاء والصيف، مهتدين في ذلك بما يقع من تغيير مستمر في زاوية الشروق والغروب الناتج عن دوران الأرض حول الشمس، وميل محور دورانها عن المحور الرأسي. قد يبدو هذا صحيحًا في المرة الأولى، لكن بسبب ميل المحور الذي يتزايد ويتناقص على مر السنة ليفرز لنا الفصول الأربعة ـ نرى كذلك على الأرض مشارق ومغارب متعددة بعدد أيام السنة، وليس مشرقين ومغربين اثنين فقط، ومن هنا نرى أن عدم التوافق الكلي الذي أفرزه هذا التفسير يدعونا إلى النظر من جديد والتفكير في الآية الكريمة لإيجاد الفهم الصحيح، فالقرآن يفسر بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، وبآثار العلم المكشوف.

التفسير العلمي الحالي:

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا). الشعراء (27) لقد جاء ذكر الشروق والغروب في هذه السورة الكريمة في صيغة المفرد، وهذه إشارة إلى حالة خاصة ثابتة في مكان ما وزمان ما. ففي كل لحظة تشرق الشمس على بقعة ما وتغرب عن بقعة أخرى، وكل الناس الموجودين في هذه البقع سيعيشون في وقت واحد لحظة الشروق والغروب، وهذا ما نقرؤه في الآية الكريمة حيث قرن المشرق مباشرة بالمغرب، ولم يكن قوله ـ عز وجل ـ رب المشرق ورب المغرب. إذَن إذا تصورنا هذه الحالة الخاصة ـ وجود حالة شروق وغروب في كل لحظة ـ وعممناها على كل بقع الأرض سنجد أن شكل هذه الأخيرة كروي، مما يدل على أن صيغة المفرد هاته استعملت إشارة إلى شكل الأرض فقط.


(فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) 
المعارج (40)

في هذه السورة الكريمة جاءت صيغة الجمع إشارة على وجود مستمر لمشارق ومغارب متعددة على هذه الأرض. وبما أن عملية الشروق والغروب مستمرة عبر المكان والزمان، فهذا يدل بوضوح تام أولاً، على أن شكل الأرض كروي، وثانيًا على أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس.


ومن هنا نستنتج أن صيغة الجمع هاته استعملت لتدل الإنسان على شكل الأرض الكروي، وحركتها حول نفسها وحول الشمس. لكن لا هذه الصيغة ولا الصيغة المفردة، لم تحدد بالنسبة للكون اتجاه دوران الأرض، سوى ما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة ما يدل على أن الشمس تطلع من مشرق الأرض: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) البقرة (257)، (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) الرحمن (15) في هذه الآية الكريمة ذكر المشرق والمغرب في صيغة المثنى. ما سبب ذلك؟ إن التعبير القرآني جميل، وهذه الآية سيقت في صيغة المثنى لتكون الأنسب في سورة الرحمن حيث الحديث كله يذكر في هذه الصيغة. إنها الأنسب، هذا صحيح، لكن لا شك أن من ورائها حقيقة كونية. وهذا ما أريد في إطار التفسير العلمي إظهاره. قبل ذلك يجب أولاً أن نلاحظ أن كلمتي المشرقين والمغربين لم تُقْرَنَا مباشرة كما كان الشأن في الآيات السالفة الذكر حيث كان قوله ـ عز وجل: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) بتكرار كلمة (رَب) وهذا يدل على أن هناك مشرقين ومغربين مختلفين تمامًا في الزمان وفي المكان كذلك. كيف هذا؟


حقائق عملية:

المجرة: تقع مجموعتنا الشمسية في مجرة درب التبانة، أو الطريق اللبني yaW ykliM التي على قرص هائل من النجوم والسحب من الغاز والغبار الكوني. وحول هذا القرص توجد الهالة الكروية المكونة من تجمعات النجوم والمذنبات والنيازك والكواكب والثقوب السوداء والثقوب البيضاء وما لا حصر له من الذرات، وشكل المجرة الخارجي حلزوني إذا نظر من أعلى، وعدسي مسطح إذا نظر إليه من الجنب.


الشمس: ذكرت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا NASA( نقلاً عن الموسوعة الأمريكية، أن الشمس ومجموعاتها تقع في الثلث الخارجي لشعاع قرص المجرة، وتجري الشمس حول مركز المجرة بسرعة 250 كيلومترًا في الثانية، وتستغرق حوالي 250 مليون سنة لتكمل دورة كاملة، وقد أكملت 18 دورة خلال عمرها البالغ 4. 8 ألف مليون سنة. كما أن الشمس تدور بنفس دوران الأرض (دوران كارنجتون  R. Carrington).


الأرض: كما جاء في نفس الموسوعة أن للأرض حركتان: واحدة حول نفسها ـ أو محورها المائل ـ من الغرب إلى الشرق تستغرق 23 ساعة و57 دقيقة بسرعة تقارب 465 مترًا في الثانية في المنطقة الاستوائية. يميل محور الأرض الوهمي على المحور العمودي بزاوية تتغير من 21. 4 درجة إلى 24. 5 درجة في دورة تقدر مدتها بـ26 ألف عام. أما الحركة الأخرى فحول الشمس وتدوم 365. 26 يومًا بسرعة متوسطة تقارب 30 كيلومترًا في الثانية. كما أن هذه الحركة تقع في مدار شبه دائري غير ثابت حيث يتغير ويمتد قليلاً ليصبح إهليجيا Euclidien ثم يعود إلى وضعه شبه الدائري في دورة مدتها 100 ألف عام. وبسبب هندسة مدار الأرض حول نفسها وحول الشمس تطرأ عدة تغييرات منها مكان الشروق والغروب.


دوران الشمس حول مركز المجرة والأرض حول نفسها وحول الشمس

لقد أظهرت إذَن الاكتشافات الفلكية أن حركة الأرض المحورية Spinaxis تكون من غرب الأرض إلى شرقها. وهذا يعني وجود شرق وغرب عند عملية بناء الكون وتوسعه بعد عملية الفتق أو الانفجار العظيم كما يسميه العلماء ىه فَه وهذه هي الحالة التي نراها حاليٌّا. أما الحالة الأخرى فهي التي سيراها الإنسان قبل قيام الساعة ـ اقرأ قوله تعالى: (يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) الحج (2,1) ـ أي عند طي السماء وانكماش الكون المنتظر Big Crunch حيث ستطلع الشمس من مغرب الأرض مصداقًا لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)، نحن المسلمين ندرك من خلال ما جاء في كثير من الآيات الكونية والسنة الصحيحة حقيقة الكون في المستقبل، ونستطيع أن نزوّد العلم البشري بمثل هذه المعلومات الهامة الكونيّة لاستغلالها والتعرف عنها مصداقًا لقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرَفُونَهَا) النمل (93).


تصور طلوع الشمس من مغرب الأرض

بعد استقرار الشمس المقدر في المكان والزمان، كما جاء في قوله ـ عز وجل: (وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). يس (35). يمكن تصور طلوعها من مغرب الأرض ـ دون أن ندخل في التعريف عن الكيفية ـ بتغيير اتجاه دوران الأرض كأن يكون معاكسًا لدوران كارنجتون  .R. C arrington


وهكذا سيكون في المجموع ـ خلال عملية توسع الكون وانكماشه ـ اتجاهان مختلفان لدوران الأرض: الأول هو الذي نعيشه ونراه حيث تدور الأرض من غربها إلى شرقها لتطلع الشمس من مشرق الأرض، والثاني هو الذي يراه الإنسان قبل قيام الساعة حيث ستطلع الشمس من مغرب الأرض. إنهما عمليتان للشروق والغروب لا تتمان في وقت واحد، ولهذا جاء قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن). والذي يدل على أن الخالق واحد أحد هو الإله بربوبيته وسلطانه وتوجيهه خلال عملية التوسع والانكماش، ليبقى التعبير واحدًا، فحيثما وجد الشروق والغروب هناك قدرة الله ودقة صُنعه.


بُعد المشرقين:

إن هاتين الحالتين للشروق والغروب مختلفتان تمامًا ويفصل بينهما بعد ثابت في الزمان والمكان: فمقدار الزمان لا يعلمه إلا الله ـ سبحانه ـ هو وحده عنده علم الساعة لا يجلّيها لأحد، أما المكان فيمكن أن نقدر بعده بنصف محيط الكرة الأرضية أي حوالي 20 ألف كيلومتر وهو بعد ثابت، مهتدين في ذلك بقوله تبارك وتعالى: (حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ). الزخرف (37).
نحن نعرف أن الإنسان كائن مرتبط بالأرض، ونفس الارتباط سيكون بقرينه بدون شك. وبما أن القرين ظل صاحبه يود هذا الأخير لو كان بينهما أثناء حياتهما الدنيا أقصى مسافة ثابتة موجودة على وجه الأرض، أي مسافة بُعد المشرقين التي تعادل المسافة بين المشرق والمغرب الحالي والتي تقدر بنصف محيط الكرة الأرضية في منطقتها الاستوائية. ومن الملاحظ أن هذا البُعد ثابت في المكان والزمان بعكس البُعد الذي يكون بين مشرقي فصل الشتاء وفصل الصيف الناتج عن التغييرات المتعددة المتتالية التي تسببها هندسة مدار الأرض حول نفسها وحول الشمس. كما نعرف كذلك أنه ما من آية في القرآن الكريم تحدثت عن أمر من أمور الدنيا أو الآخرة إلا وقد استوعبت وصف هذا الأمر بأحسن عبارة وأدقها. وبما أن الأمر الذي تعرضت له الآيات السالفة الذكر يدخل في نطاق البحث العلمي فلا نشك أن دقة العبارة القرآنية سوف تستوعب ما بلغه العلم البشري من حقائق كونية.
وكيف لا والذي أنزل هذا القرآن هو الخالق ـ عز وجل ـ الخبير العليم بالسر وما يخفى في هذا الكون. لقد فسرنا الآية الكريمة: (فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ). الرحمن (14,15) بالقرآن الكريم مهتدين في ذلك بالآية الكريمة: (حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ). الزخرف (37). وبالحديث النبوي الشريف: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها).


ومن خلال ما أتاح لنا التفسير العلمي ـ نرى أن هناك مشرقين مختلفين في المكان والزمان: الأول هو الذي نراه الآن الناتج عن عملية الفتق أو الانفجار العظيم وبناء الكون وتوسعه حيث تدور الأرض من غربها إلى شرقها لتطلع الشمس من مشرق الأرض، والآخر هو الذي سيراه الإنسان قبل قيام الساعة أي عند بداية انكماش الكون وعملية طي السماء حيث ستطلع الشمس من مغرب الأرض. والله العلم ، وإنما الموفق من وفقه الله.