التنوير بالكونيات وأثره في الحضارتين الإسلامية والأوروبية | العدد العشرون
التنوير بالكونيات وأثره في الحضارتين الإسلامية والأوروبية
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



 

زين العابدين الركابي

ينبغي التمييز بين واقع المسلمين المظلم وبين منهج الإسلام التنويري لئلا يكون هذا الواقع حجة على الإسلام وفتنة للناس فقد ثبت بالاستقراء العلمي: أن نهضة (التنوير) التي بثها القرآن، قد شملت كل مجال، وكل مستوى، وكل قضية، وكل دائرة من دوائر الحياة والكون.

ومن الدوائر الواسعة التي نفذ إليها سَنَا القرآن: (دائرة الكونيات). وهي دائرة قد تراكم عليها الظلام أحقابًا، بمعنى أن البشر كانوا يفتقدون (النور) الذي به يبصرون هذه الدائرة: بَصَرَ رؤية مجلوّة، وبصر تعامل، وبصر انتفاع.

كان الناس يتعاملون مع الكون بحشد من المخاوف والأساطير، وكانوا يخشون أنهم لو فشلوا في ممارسة السحر والطقوس والترانيم الوثنية في اتصالهم بالكون ـ فإنهم سيباغتون بانقلاب في نظام الطبيعة كله. وكانوا يفسرون الكون تفسيرًا خرافيًّا عجيبًا. فمنهم من يفسر حركة الكسوف والخسوف بأن وحشًا ضخمًا قد قضم الشمس أو القمر، ومنهم من يقول بأن الأرض محمولة على قرن ثور، وأن حركة المد والجزر ليست سوى أثر من آثار شهيق الثور وزفيره، ومنهم من جزم بأن السماء (قبة) من نحاس، وأن من يزعم غير ذلك فهو ملحد مهرطق يجب قتله، ولم يكن العرب استثناء من هذه الأساطير والأوهام فيما يتعلق بالكون. فقد كانوا ملفوفين في ظلمة التنجيم والتكهن والتطير، وخرافات الهامة، وصفر، والغراب الأسود.

يا عبل كم يشجى فؤاد بالنوى  ويروعني صوت الغراب الأسود

هذه ـ ونظائرها ـ هي: (مفاهيم) الناس في العالم ـ بوجه عام ـ عن الكون؛ تصورًا، وتفسيرًا، وموقفًا، وتعاملاً.

ثم جاء القرآن فتبدل الحال غير الحال. ذلك أن القرآن قد جعل (الكونيات): واحدة من قضاياه الكبرى: تجديدًا للإحساس والوعي بها. وتصحيحًا لفهمها. وحفزًا على التفكر الذكي فيها، والنظر الفطن إليها، والتعامل المتقن معها. وحرصًا على الانتفاع بها:

1 ـ جدد القرآن الإحساس بالكون بإزالة الغفلة المعطّلة لرؤية الأشياء بسبب الإلف الطويل الذي يحرم العين من التحديق فيما حوله:

   (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)؟.

   (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ)؟.

   (أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ)؟.

2 ـ واقترن تجديد الإحساس بأشياء الكون ووحداته: بالتحريض على النظر في الكون:

   (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ).

   (قُلْ سِيرُواْ فِى الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ).

   (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ).

3 ـ وبتجديد الإحساس، وبالنظر: يحض القرآن على التفكير في (الكون):

     (وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

     (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

4 ـ وبتجديد الإحساس بالكون، وبالنظر السديد إليه، وبالتفكير النابه فيه: يتهيأ الإنسان القوي للتعامل المنهجي الموضوعي العلمي مع الكون (المسخر له) ومن أجله. فوحدات الكون وأشياؤه ليست (آلهة) تخاف فتعبد، ولا (مقدسات) خرافية يؤدي المساس بها إلى انقلاب في نظام الطبيعة!!. بل إن هذه الوحدات والأشياء الكونية (مسخّرة) للإنسان: بشروط التسخير بداهة وهي: العلم الصحيح بسنن الكون وقوانينه وطاقاته ومفاتحه.

وبرهان (التسخير الكوني) في القرآن هو:

أ ـ (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ).

ب ـ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً).

ج ـ (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

والمسخر ـ ها هنا ـ هو: كل شيء أودع الله فيه خصائص الاستجابة والتهيؤ للطَّرق، والفتح، والتعامل، والتكيف والتسخير، هو ـ مثلا: قوانين الحركة والجاذبية، خطوط الطول، سطح البحر وعمقه، طبقات الأرض ومعادنها المختلفة، التربة وقابليتها للحرث والبذر والتسميد والسقيا وإثمار الشجر والحبوب والورود، الفضاء وقابليته للطيران ولنقل الصور والكلمات، الإلكترون والذرة، أشعة الليزر، المرايا الفضائية... إلخ... إلخ.

وكان لهذا (التنوير القرآني) بالكونيات: أثره العميق الواسع في الواقع البشري؛ في الحضارة الإسلامية وفي الحضارة الغربية، وتحريًّا لضمانات الحياد والنزاهة في توثيق هذه الحقيقة؛ نستمع إلى شهود غربيين ـ مشهود لهم بالعلم، والعقل، ودقة التوثيق، وأمانة التسجيل والرصد والوصف:

1 ـ من هؤلاء العلماء (جون ديزموند برنال) صاحب موسوعة (العلم في التاريخ). فقد قال في موسوعته هذه: (صعد الإسلام صعودًا فجائيًّا، وكان الأثر المباشر لذلك هو التنشيط الكبير للثقافة والعلوم. وقد أصبح الإسلام نقطة التجمع للمعارف الآسيوية والأوروبية. ومن ثم تدفقت في هذا المجرى المشترك سلسلة من المخترعات لم تكن متاحة ولا معروفة للتكنولوجيا اليونانية والرومانية، وبفضل الرعاية القوية والمستمرة من قِبَل الحكومات والأثرياء المسلمين، تمكّن الأطباء والفلكيون المسلمون من مباشرة تجاربهم وتسجيل مشاهداتهم، ولقد أثمرت هذه النهضة العلمية عقولاً فذة في مختلف الحقول مثل: الفرجاني في علم الفلك، والرازي في الطب، والخوارزمي في الجبر، وابن الهيثم في الطاقة الضوئية والبصريات).

ولئن سجل (برنال) هذه الحقيقة للحضارة الإسلامية ـ فقد سجل كذلك: أثر نهضة التنوير القرآني في الكونيات؛ في النهضة العلمية الأوروبية فقال: (من العسير على المرء أن يقدر قيمة الإسهام الحقيقي الذي قدمه العلماء المسلمون أنفسهم إلى رصيد المعرفة الإنسانية بما في ذلك المعرفة الأوروبية).

2 ـ العالم المؤرخ الثاني الذي وثّق ـ بعمق ـ تأثير نهضة التنوير الإسلامي في النهضة الأوروبية في الكونيات هو (هربرت ولز) الذي قال ـ في كتابه (موجز تاريخ العالم): (لقد تم للعرب في حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروب كثيرة من التقدم، ولا شك أنهم وفقوا إلى مستنبطات هائلة في المعادن، وفي التطبيق الفني لها، ولهذه التطبيقات قيمة قصوى، وأثر عميق في نهضة العلوم الطبيعية في أوروبا).

3 ـ العالم المؤرخ الثالث المعاصر هو (بول كندي) الذي حرر في كتابه الممتع المفيد (نشوء القوى العظمى وسقوطها)، هذه الحقيقة الحضارية بقوله: (إن قسطًا كبيرًا من الموروث الثقافي والعلمي الأوروبي هو في حقيقة الأمر (استعارة) من الإسلام والمسلمين).

قبل ألف عام ـ تقريبًا ـ بعث ملك انجلترا (جورج الثاني) إلى الخليفة في الأندلس: هشام الثالث بهذه الرسالة: (من جورج الثاني ملك انجلترا وغالة والسويد والنرويج، إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس، صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام، بعد التعظيم والاحترام. فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم ونشر أنوار العلم في بلادنا. وقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز لتكون موضع عناية عظمتكم ورعاية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللاتي سيتولين تعليمهن. وقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص.. جورج) والسؤال الذي لا يخلو من حرج هو: إذا كان هذا هو منهج الإسلام في التنوير بالكونيات والعلوم التجريبية فلماذا خيّم الظلام ـ في هذا المجال: أحقابًا ـ بعد النهضة الأولى ـ على حياة المسلمين؟ والجواب الرافع للحرج هو أنه في أحيان كثيرة يجب التفريق الواضح بين المسلمين البشر وبين الإسلام الموحى به:

أولاً: لئلا يحمد المسلمون بما لم يفعلوا.

ثانيًا: لئلا يكون واقع المسلمين المتخلف حجة على منهج الإسلام التقدمي.

ثالثًا: لكي ترسخ في العقول والأفئدة حقيقة أن التقدم في (الكونيات) لا يتعلق بإيمان ولا كفران. فمن تعامل مع الكون بشروط التسخير تقدم وإن كان غير مؤمن - كما هو الواقع اليوم ـ ومن أخل بشروط التعامل مع الكون تخلف وإن كان مسلمًا - كما هو واقع المسلمين الآن. فالصلاة - مثلاً - لا تغني عن هذه الشروط العلمية المنهجية، وحين قاد المسلمون نهضة التنوير بالكونيات إنما فعلوا ذلك من خلال مباشرة العلم الحقيقي بسنن الكون وطاقاته وقوانينه ومفاتحه وذراته: استجابة لمنهج الإسلام في وجوب مباشرة الأسباب الكونية: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا).