الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في دلالة غيض الأرحام | العدد الخامس
الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في دلالة غيض الأرحام
صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك



الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في دلالة: غيض الأرحام

د. عبد الجواد الصاوي


ملخص البحث:


يتناول هذا البحث تحرير معنى غيض الأرحام عند علماء اللغة ومفسري القرآن الكريم, ثم مطابقة هذا المعنى مع حقائق علم الأجنة الحديث, وقد توصل البحث إلى أن غيض الأرحام: هو السقط الناقص للأجنة قبل تمام خلقها, أو هو ما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض - أو هو هلاك الحمل أو تضاؤله أو اضمحلاله - وهذا المعنى يتوافق مع الإسقاط التلقائي المبكر للأجنة حينما تهلك ويلفظها الرحم, أو تغور وتختفي تماما من داخله. كما أظهر البحث وجه الإعجاز العلمي في هذا الموضوع. قال الله تعالى: (
الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار،عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) (سورة الرعد, الآيتان 8 ـ 9).

أولا: تحرير معنى الغيض:

يطلق الغيض في اللغة على: النقص, والغور, والذهاب, والنضوب. وقد جاء في المعاجم اللغوية: (غاض الماء غيضا ومغاضا): قل ونقص. أو غار فذهب. أو قل ونضب. أو نزل في الأرض وغاب فيها. وغاضت الدرة: احتبس لبنها ونقص. وغيض دمعه: نقصه وحبسه(المعجم الوسيط 2/668), وفى حديث سطيح: وغاضت بحيرة ساوة: أي غار ماؤها وذهب. وفي حديث عائشة تصف أباها - رضي الله عنهما: وغاض نبع الردة أي أذهب ما نبع منها وظهر(لسان العرب 7/201).

وفى المفردات في غريب القرآن: (وغيض الماء ـ وما تغيض الأرحام) أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض, والغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه(المفردات في غريب القرآن ص 368).

وقد ورد ذكر الغيض في آيتين من القرآن الكريم: الأولى هي النص السابق في سورة الرعد, والثانية: قوله جل في علاه: (
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) (سورة هود: آية 44).

ووفق قواعد التفسير القاضية بتفسير القرآن بالقرآن؛ فإن معنى الغيض في آية سورة الرعد يفسر بالغيض الوارد في آية سورة هود. ومعنى الغيض فيها: الغياب, والذهاب والنضوب, قال ابن الجوزي: قال الزجاج: غاض الماء يغيض: إذا غاب في الأرض.

وقد دار تفسير العلماء لغيض الأرحام حول معنيين: الدم الذي ينزل على المرأة الحامل, والثاني: السقط أو السقط الناقص؛ أو ما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض.
1 - الغيض هو السقط:
قال ابن عباس وقتادة: (وما تغيض الأرحام) (السقط) (وما تزداد) ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما.

وقال الضحاك: (وما تغيض الأرحام) أن تسقط المرأة الولد, (وما تزداد) تضعه لمدة كاملة تامة.

وقال الحسن: الغيض: الذي يكون سقطا لغير تمام, والازدياد ولد التمام وقال أيضا: وما تغيض بالسقط الناقص, وما تزداد بالولد التام, وقال أيضا: ما تغيض الأرحام ما كان من سقط, وما تزداد تلد المرأة لعشرة أشهر.

وقال صاحب تفسير المنار: "وما تغيض الأرحام من نقص الحمل أو فساده بعد العلوق".

وقال صاحب المفردات في غريب القرآن: «غيض الأرحام: ما تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض».

وقال عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (وما تغيض الأرحام) أي تنقص مما فيها, إما أن يهلك الحمل, أو يتضاءل, أو يضمحل, (وما تزداد) الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها.

وقال بن عطية: (وما تغيض الأرحام) معناه ما تنقص, وذلك أنه من معنى قوله (وغيض الماء) وهو بمعنى النضوب, فهي ها هنا بمعنى زوال شيء من الرحم وذهابه.

2 - الغيض هو نزول الدم على الحامل:
عزا أبو حيان هذا الرأي إلى الجمهور فقال: قال الجمهور: غيض الرحم: الدم على الحمل. قال مجاهد: (وما تغيض الأرحام): الدم تراه المرأة في حملها, وقد عزا نقصان الأرحام وزيادتها إلى هذا الدم فقال: وهو نقصان من الولد, وما زاد على التسعة أشهر فهو تمام لذلك النقصان وهي الزيادة. وبمثل قوله قال عكرمة, وقتادة, وابن زيد, وسعيد بن جبير الذي حدد طبيعة الدم في بعض أقواله فقال: الغيض حيض المرأة على ولدها.

إن الدم الذي ينزل من المرأة الحامل مبكرا لا يعدو إلا أن يكون راجعا لأحد احتمالات خمسة: دم بسيط يعرف بإدماء الانغراس, أو دماء تسبق الإسقاط وتسمى إسقاطًا منذرًا, أو دماء تصاحب الإسقاط التلقائي للجنين المبكر- وهذا يختلط عند المرأة مع الحيض- أو دماء تنزل في حالات الحمل الكاذب, ومتلازمة التوأم المتلاشي. بناء عليه فالدم الذي تراه المرأة مصحوبا ببقاء الحمل لا يمكن أن يكون دم حيض, ولا علاقة له ببقاء الجنين فترة أطول في الرحم, بل ربما يؤثر في نقص عمر الجنين أو وزنه, فالجنين الذي يبقى عادة مع الإجهاض المنذر ينزل دون التسعة أشهر, أو ينزل دون الوزن الطبيعي. وعليه فكل الآراء التي ربطت بين ضعف الولد ورقته بحدوث هذه الدماء وازدياد مدة الحمل أكثر من المدة المعهودة آراء غير صحيحة وليس عليها أي دليل علمي, بناء على هذا يمكن أن نقرر أن تعريف بعض السلف للغيض بأنه الدماء التي تراها الحامل في حملها يصب في بوتقة السقط, ويعتبر تعريفا له بأحد لوازمه, فالدماء هي الشيء الملازم غالبا والمصاحب للسقط, وبهذا نثبت أن التفسير القائل: بأن الغيض هو السقط هو رأي الجمهور أيضا.

هل الغيض مطلق السقط أم السقط المبكر؟

إن الفترة الزمنية التي يمكن أن يكون الإسقاط التلقائي فيها معبرا عن الغيض المذكور في القرآن والسنة, تقع في مرحلة التخليق؛ وتبدأ من تكون النطفة الأمشاج, مرورا بطوري العلقة والمضغة, حتى وقت نفخ الروح في الجنين.

والدليل: سؤال الملك الموكل بالرحم ربه؛ عن مستقبل ومصير كل طور من أطوار الجنين الأولى والتي تقع في زمن التخليق, هل ستتخلق أم لا؟.

- روى البخاري ومسلم بسنديهما عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها, قال: أي رب أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه.
إن أسئلة الملك؛ أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ هي أسئلة عن عن مستقبل تخلق هذه المرحلة؛ ومن ثم عن غيض الأرحام بها من عدمه! وفحوى أسئلته عندما يرى نطفتي الرجل والمرأة متقاربتين؛ يا رب أيحدث التلقيح وتتكون النطفة الأمشاج وتغرس في جدار الرحم أم تسقط؟ وهل ستتخلق بعد ذلك إلى العلقة ـ وما فيها من مجموعات الخلايا الأساسية لأعضاء الجسم ـ أم تهلك وتسقط؟

وربما يسأل الملك سؤالا واحدا شاملا من البداية. هل هذه النطفة مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن كانت مخلقة سأل عن صفتها, وإن كانت غير مخلقة مجتها الرحم دما؛ وذلك في الحديث المرفوع الذي رواه ابن جرير الطبري, بسنده عن ابن مسعود(إسناد صحيح - كما قال الحافظ ابن حجر - وهو موقوف لفظا على عبد الله بن مسعود, قال: «إذا وقعت النطفة في الرحم, بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجتها الأرحام دما, وإن قال: مخلقة, قال: يا رب فما صفة هذه النطفة أذكرًا أم أنثى؟ ما رزقها؟ وما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة, فينطلق الملك فينسخها, فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. وهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن زمن حدوث الغيض أو الإسقاط التلقائي يكون في فترة تخليق الأجنة في الأسابيع الستة الأولى


ما هو السقط وماذا يعني في علم الأجنة الحديث؟

يمكننا القول بأن السقط المفسر للغيض والمراد في كلام علماء اللغة والتفسير هو: الجنين الذي سقط من بطن أمه قبل اكتمال خلقه, أو هو الجنين الذي يهلك في الرحم؛ ويتحلل ويغور وتختفي آثاره منها, ويصدق عليه أن الرحم تبتلعه كما تبتلع الأرض الماء. فهل لهذا المعنى ما يوافقه في علم الأجنة الحديث؟
نقول بكل يقين: نعم, فالأجنة عندما تهلك في الأسابيع الثمانية الأولى من عمرها؛ إما أن تسقط خارج الرحم, أو تتحلل وتختفي تماما من داخله, ويسمي علماء الأجنة هذا الهلاك بصورتيه: الإسقاط التلقائي المبكر. وهو متوافق تماما مع أقوال علماء اللغة والتفسير في تعريفهم للغيض.
وعليه يمكننا أن نقول: بأن غيض الأرحام هو الإسقاط التلقائي المبكر.


ثانيا: تحرير الحقيقة العلمية:
1 - ما هو الإسقاط التلقائي المبكر؟
يطلق الإسقاط التلقائي (Spontaneous abortion) على كل حالة يسقط فيها الحمل تلقائيا قبل الأسبوع العشرين من عمره, أو عندما يكون وزن الجنين أقل من 500 جم. ومعظم حالات الإسقاط التلقائي تحدث خلال الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل. ويسمى الإسقاط التلقائي المبكر. وهو ظاهرة شائعة, ونسبة حدوثه كبيرة, وغالباً يحدث بدون دراية من الأم بالحمل, والغالب أن كل امرأة تتأخر لديها الدورة الشهرية مدة أسبوع أو أسبوعين أو تأتي لها الدورة بغزارة غير طبيعية تعتبر في حالة إسقاط تلقائي مبكر. وتكون نسبة الإسقاط التلقائي عالية جدا قبل 4 أسابيع؛ إذ تصل إلى حوالي 40%, ومن الحمل الذي يعيش 4 أسابيع يفقد منه من 15 ـ 20% . وقد قام بعض الباحثين ببعض التجارب لتحديد نسبة فقد الحمل في الفترة المبكرة جدا منه؛ فقام إدموندز (Edmonds) وزملاؤه عام 1982, باختبار الحمل في بول 198 امرأة صحيحة قابلة للحمل, فوجد لدى 118 منهن حملا, وقد فقدت 67 امرأة منهن حملها مبكرا ـ من غير أن يعرفن أنهن حوامل ـ وتمثل النسبة حوالي 60%. وفي عدة مشاهدات للسقط المبكر لم يكن الجنين موجودا؛ أي أن الجنين قد تحلل واختفى داخل الرحم. وعدم رؤية جنين بالمرة في حويصلة الحمل, يسمى كيس الحمل الفارغ. ويشيع هذا في حالات ظاهرة التوائم المتلاشية.Vanishing Twin Syndrome وقد لا يسقط محصول الحمل بعد موت الجنين تلقائيًّا, بل يبقى لفترة طويلة داخل الرحم ويسمى الإجهاض المخفي (Missed abortion)؛ ويتغير فيه حجم الرحم فيأخذ في الصغر والجمود ـ نظرا لامتصاص السائل الأمنيوسي وحدوث تهتك في الجنين ـ والنسبة الغالبة من هذا الإجهاض المخفي مآلها إلى الإسقاط التلقائي, لكن في بعض الحالات يغور ويختفي الجنين تمامًا من حويصلة الحمل. وتقول المراجع الطبية: ما زالت الإجابة غير معروفة ومحددة لهذا السؤال. لماذا تسقط بعض الأجنة بعد موتها ولماذا لا يسقط بعضها الآخر؟.

2 ـ الأدلة العلمية على أن المراد بالسقط هو السقط المبكر:
الدليل الأول:
ذكر الغيض قبل الزيادة والمطابقة بينهما في قول الله تعالى: ) وما تغيض الأرحام وما تزداد(. ذكرت الآية الكريمة الزيادة بعد الغيض؛ ومعروف علميا أنه خلال الأسابيع الثمانية الأولى من عمر الجنين لا يزداد الرحم عن حجمه الطبيعي زيادة ملحوظة تذكر؛ وأن التغييرات التي تطرأ عليه هي تبدلات وظيفية في أنسجته, وتحدث تحت تأثير هرمونات الحمل. لكن الازدياد الحقيقي للرحم يبدأ بعد مرحلة التخليق في بداية الأسبوع التاسع؛ وهو المتعلق بنمو الجنين, ويستمر إلى نهاية الحمل. انظر شكل (1). وبناء عليه فلا يكون الغيض المطابق للازدياد في الآية الكريمة إلا في مرحلة التخليق (الأسابيع الثمانية الأولى). انظر شكل (2)

الدليل الثاني:
لا تغور الأجنة ولا تنضب إلا في مرحلة التخليق: حيث وجد أن الأجنة الهالكة لا تغيب آثارها وتختفي من داخل الرحم إلا في خلال مرحلة التخليق. يقول مرجع طبي: إنه من اللافت للنظر أن موت الأجنة وإتباعها بغور وارتشاف ونضوب وامتصاص كامل لها لا يكون إلا في الأشهر الثلاثة الأولى وحتى نهايتها كحد أقصى, (أي شهرين ونصف بعد حدوث التلقيح). ويقول مرجع طبي آخر: عندما يكون هناك توقف في نمو الجنين أثناء الأشهر الثلاثة الأولى؛ يحدث غور ونضوب وامتصاص لهذا الحمل (جاينيوكوس 1988). أما عندما يموت الجنين في الأشهر الثلاثة التالية؛ فلا يندثر ويغيب من الرحم, بل يضغط وينكمش حتى يصير رقيقا كالورقة, ويسمى الجنين الورقي, وبما أن الغيض يراد به السقط الملفوظ من الرحم, أو المتحلل الذي غار ونضب فيه, لذا فلا يمكن أن يكون الغيض مرادا به مطلق السقط في أي فترة زمنية, ولكنه السقط الحادث في مرحلة التخليق فقط. بناء على هذه الحقائق يثبت لنا أن الإسقاط التلقائي المبكر يشمل كلاً من الأجنة الهالكة الملفوظة من الرحم, والمتحللة الغائرة فيه.

ثالثا: توافق معنى الغيض مع السقط التلقائي المبكر:

إن دلالات الغيض اللغوية تتوافق وظاهرة الإسقاط التلقائي المبكر بحالتيها حسب الاصطلاح الطبي: الأجنة التي تلفظها الأرحام, والأجنة المندثرة فيها. دلالة الغيض على الغور والذهاب والنضوب: تتوافق مع ما يحدث لبعض الأجنة, من التحلل والاختفاء تماما من أو مع حويصلة الحمل, حيث لا يبقى للجنين أي أثر داخل الرحم كما في الحالات والصور التالية:

أ
- حالات البييضة المعيبة (Blighted ova) أو كيس الحمل الفارغ: حيث يتحلل الجنين وتمتص مكوناته, ولا يكون له أثر داخل كيس الحمل, وتمثل هذه الحالات حوالي نصف حالات السقط التلقائي المبكر, وفي دراسة قام بها هيرتج وشيلدون (Hertig & Sheldon) عام 1943 على ألف سقط تلقائي, وَجَدَا أن الجنين يكون متحللا ومختفيا تماما في 49% من حالات تلك الدراسة. وبعد اكتشاف جهاز الأشعة فوق الصوتية واستخدامه في تشخيص الحمل ومتابعته؛ تأكدت حالات غور الأجنة واختفائها من داخل الأرحام, وسميت بكيس الحمل الفارغ. انظر شكل (3).


ب ـ حالات التوائم المتلاشية: أكدت عدة دراسات حديثة شيوع هذه الظاهرة؛ إذ بلغت نسبتها حوالي 50% من حمل التوائم. ويقول أحد المراجع الطبية: يغور وينضب ويختفي أحد التوأمين تماما من داخل الرحم في الفترة المبكرة من الحمل. وقد شخصت هذه الحالات بجهاز الأشعة فوق الصوتية (Ultrasound) فبعد رؤية جنينين في الرحم بهذا الجهاز, أصبح لا يرى إلا جنين واحد منفرد, وبجواره كيس صغير يحتوي على مادة كثيفة تدل على موت جنين سابق. وفي خلال 4 ـ 6 أسابيع يمكن أن يختفي هذا الكيس تماما, ويزول معه الدليل على وجود حمل لجنين سابق آخر. كما يمكن أن يشخص حمل عديد الأجنة ـ بأكياس حمل وأجنة حية ـ ثم عند الوضع لا يولد إلا جنين واحد تام مكتمل. (أما بقية الأجنة فقد غارت وابتلعتها الأرحام). وقد أجرى كل من روبنسون وجانيس (1977م) متابعة بجهاز الأشعة فوق الصوتية لثلاثين امرأة تحمل كل منهن توأمين؛ في خلال الأشهر الثلاثة الأولى. وكانت النتائج كالتالي: أربع عشرة منهن ولدن توأمين, وإحدى عشرة امرأة منهن ولدت كل واحدة منهن ولدًا واحدا, والآخر كان كيس حمل فارغ (حيث غار الجنين واختفت آثاره), وأربع منهن لم يلدن شيئا, (حيث غارت الأجنة كلها وابتلعتها الأرحام), وواحدة لم تلد شيئا أيضا؛ لكن وجد عندها إجهاض مخفي مع كيس حمل فارغ. وفي عام 1979 حصل فارما وآخرون على نفس النتائج. انظر شكل (4).

ج - الإجهاض المخفي: يحدث في بعض صور الإجهاض المخفي أن يغور الجنين ويرتشف, ولا يكون له أي أثر داخل كيس الحمل. فيصير الجنين مع الرحم كالماء الذي حبسته الأرض وابتلعته. وهي إحدى دلالات الغيض اللغوية. انظر شكل(5). لذا فإنه لا يوجد في مثل هذه الحالات أي إسقاط مشاهد, ولا يمكن وصفه بدقة وشمول إلا بمسمى الغيض, الذي يعني الغور والنضوب والذهاب بالكلية.

2- كما أن دلالة الغيض على النضوب

والذهاب:
تتوافق أيضا مع ما يحدث في التجاويف العديدة الممتلئة بالسوائل والدماء التي تحيط بالجنين؛ كتجويف السلي, والتجويف الكريوني, والتجمعات الدموية في المسافات البينية للزغابات, والتي تجعل الجنين يحيا في محيط مائي, أشبه بالبرك أو البحيرات المقفلة, حيث يحدث عند هلاك الجنين توقف التحكم الهرموني لبطانة الرحم ـ وما فيه من أوعية دموية وغدد وأنسجة ـ فتنضب إفرازات الغدد, وتقفل الأوعية الدموية للأم, وتتخثر الدماء في الفجوات وبين الزغابات, فتجف وتذهب وتنضب هذه البحيرات داخل بطانة الرحم وفي تجويفه حول الجنين. وبهذا يكون إسناد الغيض للأرحام إسناداً حقيقيًّا انظر شكل (7.6).



3- دلالة الغيض على الاحتباس مع النقص:


تتوافق مع ما يحدث لبعض الأجنة حين تهلك ولا تسقط بل تحبس داخل بطانة الرحم ـ وقد تمكث فترة طويلة ينكمش فيها الجنين ويتهتك ـ مع جفاف معظم السوائل الداخلية والخارجية حوله, فينكمش الرحم ويقل وزنه وحجمه, كما يحدث هذا في بعض صور الإجهاض المخفي. انظر شكل (8). وبهذا يكون تعبير الغيض أشمل وأدق دلالة من معنى السقط, إذ يشمل الدلالة على الجنين الذي يغور وتختفي آثاره من داخل الرحم, والدلالة على سقوط الجنين الذي يلفظه الرحم, وعلى الأحداث التي تصاحبه؛ مما يؤكد أيضا أن إسناد الغيض للأرحام إسناد حقيقي.

علماء الإسلام يقررون هذه الحقيقة قبل اكتشاف الأجهزة الحديثة:

لقد أشار ابن عطية الأندلسي ـ منذ عدة قرون ـ إلى الأجنة المتلاشية في الأرحام فقال مفسرا الغيض: بأنه زوال شيء من الرحم وذهابه. كما أن صاحب كتاب المفردات في غريب القرآن وصفه بوضوح في قوله: الذي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض. ولله در الشيخ السعدي الذي فسر الغيض بالسقط بصورتيه وكأنه طالع أحوال الأجنة الهالكة في أحدث المراجع العلمية. قال: (
وما تغيض الأرحام) أي تنقص مما فيها؛ إما أن يهلك الحمل (السقط الذي يلفظه الرحم), أو يتضاءل (الإجهاض المخفي حيث ينكمش الجنين ويتضاءل), أو يضمحل (الأجنة التي تتلاشى في الرحم).

الإعجاز في دلالة الغيض


إن دلالة غيض الأرحام على الإسقاط التلقائي المبكر بصورتيه: غور الأجنة وإسقاطها, وما يصاحبه من نقصان ونضوب لبرك السوائل والدماء المحيطة بالأجنة, لهو إعجاز علمي واضح, سبق به القرآن الكريم علم الأجنة بقرون, فالعرب رغم أنهم يعرفون معنى لفظ الغيض لغة إلا أنهم لم ينطقوا بجملة غيض الأرحام أبدا قبل نزول القرآن الكريم. ولقد اتضح بيقين ـ في هذا الزمان ـ بعد تقدم علم الأجنة الوصفي والتجريبي دقة لفظ الغيض, ودلالته الشاملة لكل الأحداث التي تمر بها الأجنة الهالكة في مرحلة التخليق؛ فبعضها تسقطه الأرحام, ويمكن أن يشاهد وتدرك آثاره, والبعض الآخر يتلاشى ويختفي ولا تدرك آثاره؛ ويصدق عليها أن الأرحام قد ابتلعتها كما ابتلعت الأرض الماء. وهذه الحقيقة لم تعرف إلا في هذا القرن, بعد تقدم أجهزة البحث والرصد والتحاليل الدقيقة, ولم تحدد بدقة إلا بعد استخدام أجهزة الموجات فوق الصوتية  المكتشفة حديثا. وهكذا أثبت العلم بيقين دقة هذا التعبير وشموليته؛ وبهذا يتحقق السبق القرآني في الإشارة إلى حقائق علمية دقيقة, لم يكتشف معظمها إلا في النصف الثاني من هذا القرن, تحقيقا لقول الله تعالى: ( إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين)(ص: 87 ـ88).

توصية:
إن مصطلح الغيض أدق وأشمل من مصطلح الإِسقاط التلقائي المبكر؛ لذلك نطالب لجنة وضع المصطلحات الطبية العالمية أن تعتمد هذا المصطلح القرآني لوصف أحوال الأجنة الهالكة في زمن التخليق, وأن يتبنى علماء الأجنة المسلمون هذا المطلب, وأن يقوموا بتدريسه في المعاهد العلمية.